بقلم: أحمد نظيف – النهار العربي
الشرق اليوم – جاءت عملية طرد السفير الفرنسي من مالي تتويجاً لحالة من التوتر والتدهور المديد سادت العلاقات السياسية والدبلوماسية والعسكرية بين الحكومة الفرنسية من جهة والمجلس العسكري المالي بقيادة العقيد غوتا ومنه. لكن ذلك لا يمكن النظر إليه بمعزل عن الحضور الروسي اللافت في البلاد خلال الأشهر الأخيرة، والذي بدا أكثر وضوحاً منذ دخول قوات شركة فاغنر العسكرية الروسية إلى مالي. إلا أن هذه الخطوة السياسية المترافقة مع التوتر في العلاقات بين البلدين لا يمكن أن تكون مجرد قرارات فوقية ولا يمكن النظر إليها بعيداً عن تصاعد الخطاب القومي في باماكو ضد السياسات الفرنسية وعلاقات الهيمنة، حيث أصبح جزء من المجتمع المدني ينظر إلى فرنسا على أنها تتبع سياسة عدوانية لا تدافع إلا عن مصالحها الاقتصادية في أفريقيا.
في حزيران (يونيو) 2021، أعلن الرئيس ماكرون انتهاء عملية برخان، وترك فراغًا يتعين ملؤه على الأراضي المالية. وبعيدًا عن الرغبة الفرنسية في الانتقال نحو الحكم السلمي وإضعاف الجماعات الإرهابية المسلحة، أعربت باماكو عن رغبتها في التعاقد مع مجموعة فاغنر الروسية، وهي أداة نفوذ استراتيجي للكرملين، من أجل حماية كبار قادتها وتدريب القوات المسلحة المالية. كما أثارت دعوة الرئيس الفرنسي إلى إعادة تشكيل الحضور العسكري الفرنسي، وكذلك الإصرار على العودة الضرورية إلى حكومة مدنية، غضب القادة الماليين الجدد. وفي بلد يعاني هشاشة وعدم استقرار ، ومجزأ عرقياً وجغرافياً وسياسياً، كان ضرورياً على الحكومة العسكرية المالية البحث عن بدائل للدعم العسكري الفرنسي لتجد الخيار الروسي جاهزاً.
ذلك أن روسيا وضعت منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي، أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط في قلب سياستها الخارجية. وأصبح هذا المكان أكثر أهمية في عام 2015 ، حيث رأت موسكو في سوريا وسيلة لإعادة تأكيد مكانتها كقوة دولية مع الدفاع عن مصالحها الأمنية والاقتصادية، والتي تتمثل في محاربة الإرهاب وتطوير الاتفاقيات التجارية حول الطاقة .في مثل هذا النموذج، تظهر القوة الإقليمية التي هي الجزائر كحليف مفضل، خاصة وأن علاقاتهما كانت في حالة جيدة منذ نهاية الحرب الباردة. وإحدى الأدوات المهمة للإختراق الروسي الإستراتيجي للمجال الأفريقي مجموعة “فاغنر” التي ظهرت في أوكرانيا منذ 2014 ، ثم على الجبهة السورية. لاحقاً سرعان ما أصبحت أفريقيا مجالًا آخر من مجالات نشاطها، من ليبيا إلى مدغشقر، عبر جمهورية أفريقيا الوسطى. إذا تم وصف هذه المجموعة من المرتزقة بأنها “جيش سري”، باعتبارها مجهزة من فوائض الجيش الروسي وقد كشفت التحقيقات الصحفية أنها تدربت على قاعدة GRU بالقرب من كراسنودار (جنوب روسيا). كما تشكل هذه المجموعة قوة في خدمة موسكو، مرنة في استخدامها ، كما أن الطابع غير الرسمي يوفر “إمكانية الإنكار”.
بالإضافة إلى ذلك من شأن اتفاقية محتملة مع باماكو أن تجلب 9.15 مليون يورو شهريًا إلى مجموعة فاغنر وستضمن للشركة الروسية الوصول إلى ثلاثة رواسب تعدين (مناجم)، اثنتان من الذهب وواحدة من المغنيسيوم . وبالتالي، مقابل المساعدة في حل الوضع الأمني الحرج، ستحصل روسيا على مزايا مالية وسياسية من باماكو. ومن ثم ستقدم نفسها كقوة منتصرة عظيمة، على عكس فرنسا الوحيدة، التي أصبحت ضعيفة النفوذ بسبب تدخلها في منطقة الساحل وتغيير نموذج العلاقة من جانب مستعمراتها السابقة. وفي المقابل، دعوات روسية معلنة على لسان الرئيس فلاديمير بوتين الذي لا يتردد في سوق الخطب المناهضة للاستعمار في القارة من خلال تشجيع الدول الأفريقية على “التعبئة من أجل الاستقلال السياسي والاقتصادي”، وحضها “على إنهاء اعتمادها على فرنسا والعمل على تنمية القارة التي تعتبر من أغنى دول العالم”.
على المقلب الآخر تبدو فرنسا منذ وقت مبكر قلقةً من النفوذ الروسي المتزايد في إفريقيا جنوب الصحراء وفي المغرب العربي ولكنها لا تفعل شيئاً في مواجهة ذلك، لأن الجموح الروسي يبدو في أقوى موجاته في العمق الإفريقي، وقد عمقت الجائحة الصحية ذلك على نحو كبير. حيث لعبت موسكو لعبتها الديبلوماسية أينما وجدت فراغاً من خلال سد حاجات الدولة وجني مكاسب أخرى غير متعلقة بالوباء أصلاً. هذه الديبلوماسية الروسية القائمة على اللقاحات دفعت الرئيس الفرنسي للتعبير عن خشيته من أن أوروبا تواجه نوعا جديدا من الحرب بسبب سعي روسيا والصين، لممارسة التأثير بمساعدة اللقاحات” وذلك خلال قمة الاتحاد الأوروبي الافتراضية. وكانت الأزمة الصحية فرصة تاريخية لموسكو لمواصلة جهودها للحضور بقوة و بطرق مختلفة في شمال أفريقيا وجنوب الصحراء والظفر بمناطق نفوذ على حوض البحر الأبيض المتوسط، وخصوصاً بعد أن ضمنت التواجد العسكري في ليبيا والشراكة في المفاعل النووي لأغراض سلمية مع مصر، فروسيا تستعمل اللقاحات لتبرز كشريك جدي لدول المنطقة لديه أهداف، ليست فقط تجارية واستراتيجية، بل إنسانية أيضاً، وهي سياسات موروثة من الاتحاد السوفياتي.