بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم – بالفارق الواضح بين (هذا) و(هذه)، نستطيع اقتفاء أثر “الجنوسة اللغوية”، وتحديد جنس الكلمة في اللغة العربية كمفرد مؤنث، أو مفرد مذكر. ولأننا عادة ما نبدأ أحاديثنا حولها بعبارة: (هي الحرب) أو (هذه الحرب)، تلبس هذه المفردة ثوب الأنوثة الناعمة في اللغة ووجهها الغاضب في الواقع، ولأن من يصنعها في الغالب هو المذكر، لذلك نراه يلقي عليها دائماً رداء الذكورة الخشن.
الحرب أنثى إذن، لكن ما أشد فتكها بقرينتها الأنثى (المرأة)، وما أقسى قيدها حول المعاصم والأرواح، عندما تفرض الصراع والعنف، وتهدد كل شيء حتى الوجود… هذا تماماً ما تفعله الحرب الدائرة اليوم بضراوة على الأرض السورية، والتي ما زالت مستمرة أمام أعيننا منذ عشر سنوات، وشتان بين أن تكون متفرجاً أو أن تكون منخرطاً بالمأساة، فالفرق يصيب لبّ الحياة، وطريقة عيشها. لذا سأكون مباشراً في عرض معاناة المرأة السورية من دون اللجوء إلى الكنايات أو الاستعارات، ذلك أنّ رشّ السكر على كل ما هو موجع ومرّ، يبدو ضرباً من الخيال وهدراً للوقت ليس إلا، كما وأنني مؤمن أن هذه المعاناة ستستحيل ملحمة لا محالة، وأن هذه الحرب ستنتهي ولو بعد حين.
ليس من الصعب أن نعرف، بفضل بعض القراءات والتحليلات السياسية، كيف تبدأ الحرب وكيف تدور رحاها، ولكننا لا نعرف ببساطة متى وأين تنتهي، وسيظلُّ السؤال الملّح والذي لا مناص منه هنا، هو كيف مرّت هذه الحرب على جسد الشعب السوري، بل وكيف غيّرت من خريطته الاجتماعية، وما المكان الذي باتت المرأة السورية تحتله على هذه الخريطة؟
لست هنا بصدد استخدام مقياس الألم لإعطاء تراتبية لأكثر المتأثرين تضرراً، ذلك أن مفرزات الحرب ونتائجها، تنعكس على الجميع دون استثناء بشراً كانوا أم حجراً. لكنني فضلت في مقالي هذا أن ألقي الضوء على المرأة السورية من دون غيرها، كونها الأم والأخت والزوجة والابنة، علَّ العالم يعي، من خلال هذا التفصيل، ويلات الحرب وفداحة تأثيراتها. فقد نزح أغلبية “العنصر المذكر” من ساحة الحياة السورية إلى ساحات الموت، في المعارك أو في بلاد الهرب واللجوء، لتجد المرأة السورية نفسها مرغمة على أخذ “دور البطولة” المطلقة في البنية الاجتماعية الجديدة المفروضة، وما أقساه من دور، يحمّلها مسؤوليات جساماً؛ معنوية ومادية على حدّ سواء، فتراها تصنع من الدمع خبزاً تطعم به جوع الأيام…
ومع أن الجميع يبتغي بلا شك دور البطولة والريادة في مختلف المجالات، ويسعون إليه بكل إصرار، لكن البطولة في خضم هذه الأحداث باتت بالنسبة لسيدات سوريا عبئاً يثقل الكاهل، وقيداً يلتف حول الأعناق. إذ يبدو أنّ الظافر بكأس البطولة هذا لا يتجرع منها إلا الخسارات المرّة..
ورغم ذلك… لم يكن الاستسلام هو الحل بالنسبة إلى نساء سورية، بل اخترن العزيمة على المواجهة وكنَّ قادرات على التكيف والتأقلم مع الأزمة وتبعاتها رغم الكلفة العالية. ولقد قلب “الأمر الواقع” الجديد الكثير من المقاييس، فما كان مستهجناً ومرفوضاً في الماضي، بات في زمن الحرب مقبولاً واعتيادياً. ولمَ لا، وقد تصدرّت المرأة السورية عناوين الأخبار والصحف نتيجة الأعمال الجديدة التي امتهنتها في ظلّ الأزمة والتي تجاوزت الأعمال “الأنثوية” التي حددتها التقاليد المتوارثة سابقاً. فبتنا نراها اليوم سائقة لوسائل النقل العامة، بائعة لليانصيب، عاملة في المقاهي وفي مشاريع البناء، مناوبة ليلية لحراسة المنشآت، والأهم من كل ذلك، نراها تقف على طوابير المواد الأساسية والاحتياجات اليومية الشحيحة منذ ساعات الفجر الأولى، لتصير “السوبرمان” المنقذ لأفراد عائلتها المنتظِرين.
ولقد مثّلت الحرب السورية بحق عاصفة شديدة أدّت إلى زعزعة مفاهيم كثيرة، من بينها مفهوم “الأدوار الجندرية” التقليدية السائد في المشهد العربي، وفرضت تغييراً حتمياً في ركائز ومسلمات هذا المفهوم، وفي تطبيقاته أيضاً، ذلك لأن “الحاجة” إلى هذا التغيير لم تكن قوية وحسب، بل وعامة أيضاً لدى جميع فئات الشعب السوري ومكوناته، ومن الطبيعي أن يدفع الجميع الثمن لتلبيتها، حتى لو كان هذا الثمن استبدال الكثير من الأفكار والقيم التي كانت فيما مضى سائدة وراسخة.
ورغم ذلك… لم يسرق تغيّر الأدوار هذا، ولا جحيم الحرب نفسه، من الأنثى السورية سماتها الرقيقة، بل زاد عليها الكثير من الملامح الإنسانية السامية، وعلَّمها كيف تصنع من جرحها عكازاً تتكئُ عليه لتتجاوز الحاضر الأليم نحو المستقبل. حتى لقد بات معظم النساء السوريات والعراقيات والليبيات واللبنانيات –المكلومة قلوبهن من الفقد– يسعين جاهدات إلى بثّ ثقافة التسامح والغفران في وجدان أجيال المستقبل، بعيداً من العنف والثأر والرغبة بالاقتصاص. فإعادة البناء والترميم بنظرهنَّ، تحتاج مستقبلاً خالياً من تكرار أخطاء هذه المأساة، وهذه لعمري واحدة من أبهى صور التضحية وأعلى مستويات الوطنية والانتماء.
ولئن كانت إيجابيات الحرب بالعموم شبه معدومة، إلَّا أن نوراً خافتاً كان يتبدَّى دائماً في حالة تضامن الجهود النسائية في سوريا مع بعضها، من خلال زيادة عدد الجمعيات والمؤسسات التي تُعنى بالأسرة بشكل عام، وبالمرأة بشكل خاص، لتمكينها وتأهيلها على الوجه الذي يتماشى مع متطلبات الوضع الراهن. الأمر الذي يساعد على تثقيف المرأة وتحفيزها لمواجهة صعاب الحرب، وإطلاق مشاريعها الخاصة لتعزيز ما لديها من نقاط قوة واكتساب أخرى جديدة، في محاولة لتجاوز العقبات وخلق بنية اجتماعية ووضع اقتصادي آمنين ولو نسبياً، وهذا ما يُظهر جلياً قدرة المرأة على احتواء الأزمات، وإيجاد الحلول البديلة للخروج من الصراعات بأقل الخسائر، والسير قدماً باتجاه بر الاستقرار.
إنَّ الصراع، كما أثبت التاريخ في مناسبات عديدة، أمر محتوم على طريق تطور الأمم، من اليابان إلى ألمانيا ومروراً بالصين وروسيا وغيرها من الدول. إذ تساعد الحرب بشكل أو آخر على استكشاف الذات والتعرف إلى كنوزها وقدراتها المخبأة والتي توارت بفعل الزمن والبحبوحة. وهذا ما نتطلع إليه بخصوص الأزمة السورية، فالوقت الصعب لابد سينتهي، آخذاً معه الكثير من العادات والتقاليد البالية والأدوار النمطية، وتاركاً نساء قويات –رغم الألم– قادرات على صون مكانتهنَّ المجتمعية، وتحقيق استقلاليتهن المادية، وموجودات وفاعلات على مسرح المشهد السوري العام.
لقد فطنت المرأة السورية منذ بدايات الحرب الأولى إلى ضرورة أن تنأى بنفسها عن الاستسلام لدور الضحية والبكاء على أطلال ماضيها الجميل والمرفَّه، وهبّت مباشرة للتطلع نحو مستقبل تكون فيه شريكةً حقيقيةً، ليس فقط في المحن بل وفي أوقات السلم والأمن والبناء. فالقليل الذي كان يُطلب منها قبل الحرب لم يعد طموحها المثالي الوحيد، لأن الحلم الذي تشكله اليوم، يشي بغدٍ تكون فيه عنصراً فعالاً في عملية البناء والقيادة، أسوةً بنساء ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ومَن أفضل من المرأة لتكون مثلاً أعلى لنظيرتها المرأة في الظروف المتماثلة؟
أخيراً… يقولون إن “الهزيمة يتيمة… أما النصر فله ألف أب”، وأنا بدوري أضيف على هذه المقولة: “أما النصر فله ألف أم أب”، فلا نصر يتم من دون وجود الروح الأنثوية في طياته، ولا ألمّح هنا إلى النصر بالمعنى التقليدي، ذلك الذي يظفر به الجنود على الجبهات وفي ساحات المعارك؛ بل النصر الذي تشارك المرأة فيه انطلاقاً من إيمانها بأن الحرب وإن كان يصنعها الرجال، فإن مسؤولية النجاة منها تترتب على عاتق الجميع، نساء ورجالاً، كل من موقعه… وكل بحسب استطاعته.
أما الختام… فللمرأة السورية والعراقية والليبية واللبنانية بشكل خاص والعربية بشكل عام منّا ألف تحية وسلام.