بقلم: إيفان كراستيف – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – في الأسابيع الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، أرسل جنرال ألماني برقية إلى حلفائه النمساويين يلخّص فيها الموقف. كتب يقول: «الأمر خطير، ولكنه ليس كارثياً». وجاء الرد: «الوضع هنا كارثي، ولكنه ليس خطيراً».
إنها مزحة بالطبع. ولكنها تكشف باختصار عن الخلاف بين الولايات المتحدة وأوروبا حول الأوضاع في أوكرانيا. بالنسبة إلى الولايات المتحدة والرئيس بايدن، الذي وافق يوم الأربعاء الماضي رسمياً على نشر القوات الأميركية في أوروبا الشرقية، يشكّل الغزو الروسي بقيادة الرئيس بوتين «احتمالاً واضحاً». بالنسبة إلى أوروبا، ليس كثيراً. ولخّص أحد كبار الدبلوماسيين الألمان هذا الاختلاف بقوله: «تعتقد الولايات المتحدة أن بوتين سيشن حرباً شاملة، ويعتقد الأوروبيون أنه يخادع».
ربما هذا متوقَّع. ففي نهاية المطاف، لا نستطيع عموماً أن نتصور اندلاع حرب كاملة النطاق بالنسبة للرأي العام في أوروبا الغربية كما لو كان غزواً من الخارج. فالعقود الكثيرة من السلام في أوروبا الغربية، إلى جانب اعتماد القارة الكبير على النفط والغاز الروسيين، تجعل المسؤولين يفترضون أن الخطوات الروسية العدائية الراهنة ليست إلا حيلة.
لكن الميل الأوروبي إلى استيعاب روسيا لا يفسر لماذا يبدو أن المسؤولين الأوكرانيين، بعد الإنذار الأوّلي، يشاركونهم الآن الرأي نفسه؟ وقلل رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي، الأسبوع الماضي من أهمية التهديد المباشر بالحرب، مشيراً إلى أن الوضع «خطير، ولكنه ملتبس». وبالنسبة إلى بلد مهدَّد بمواجهة 130 ألف جندي روسي على حدوده، فإنه تقييم مذهل. ولكن ما الذي يكمن وراء ذلك؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل مفاجئة، بل حتى متناقضة. يشكّك الأوروبيون والأوكرانيون في غزو روسي كبير لأوكرانيا، ليس لأنهم ينظرون إلى بوتين نظرة أكثر اعتدالاً من نظرائهم الأميركيين، على العكس، بل لأنهم يرونه أكثر خبثاً ودهاءً. وهم يفكرون أن الحرب ليست لعبة الكرملين. عوضاً عن ذلك، هي مجموعة واسعة من التكتيكات المصمَّمة لزعزعة استقرار الغرب. وبالنسبة إلى أوروبا، فإن تهديداً بالحرب قد يكون أشد تدميراً من الحرب ذاتها.
لا يوجد انقسام أوروبي – أميركي بشأن ما يريده السيد بوتين. على الرغم من كل التكهنات بشأن الدوافع، فإن هذا أمر واضح: الكرملين يريد فترة انفصال رمزية من تسعينات القرن العشرين يدفن خلالها نظام ما بعد الحرب الباردة. هذا من شأنه أن يتخذ هيئة البنية الأمنية الأوروبية الجديدة التي تعترف بمجال النفوذ الروسي في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، مع رفض عالمية القيم الغربية. وبدلاً من استعادة الاتحاد السوفياتي القديم، يتلخص الهدف في استعادة ما يعدّه بوتين «روسيا التاريخية».
في واشنطن وبروكسل، وصلت الرسالة إلى ناشديها. فهناك اتفاق عام على جانبي الأطلسي بأن الكرملين، مهما كان ما سيفعله بعد ذلك، لن يبقى ساكناً. ولن تتراجع روسيا ببساطة. ولكن في حين يميل الأميركيون إلى الاعتقاد بأن بوتين يحتاج إلى حرب ساخنة في أوكرانيا لتحقيق طموحاته الكبرى، يعتقد الأوروبيون، وربما الأوكرانيون أنفسهم، أن الاستراتيجية المختلطة التي تتضمن وجوداً عسكرياً على الحدود، وتسليح تدفقات الطاقة، والهجمات السيبرانية، سوف تخدم أغراضه بشكل أفضل.
هذا مبنيٌّ على تفكير سليم. فأيُّ توغل روسي داخل أوكرانيا من شأنه إنقاذ النظام الأوروبي الحالي بطريقة معاكسة. ولن يكون أمام حلف الناتو خيار سوى الرد بقوة، وفرض عقوبات صارمة، والعمل في إطار وحدة حاسمة. ومن خلال تصلب مجريات الصراع، يستطيع السيد بوتين إقناع معارضيه. وعلى النقيض من هذا، فإن الامتناع عن التدخل قد يخلّف تأثيراً معاكساً: إن سياسة الضغط الأقصى، باستثناء الغزو، قد تؤدي في النهاية إلى تقسيم حلف الناتو وشل حركته.
ولكي نرى كيف يمكن أن يحدث هذا، فما علينا إلا النظر إلى ألمانيا. قبل الأزمة، كانت ألمانيا أقرب حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، وتباهت بعلاقة خاصة مع موسكو، وكانت أهم شريك لأوروبا الشرقية والوسطى. واليوم، شكك البعض في واشنطن في استعداد ألمانيا لمواجهة روسيا، وتدهورت علاقة برلين بموسكو بشكل سريع، ويشعر الكثير من الأوروبيين الشرقيين بالهلع من تردد ألمانيا الواضح في تقديم الدعم لهم. إن الصعوبات التي تواجهها ألمانيا تشير إلى ما يمكن أن يحدث إذا استمر السيد بوتين في ممارسة سياسة حافة الهاوية، من دون تقديم يقين بحدوث غزو فعليّ.
إن ألمانيا لم تتغير بشكل حاسم، ولكن العالم الذي تتحرك فيه قد تغير. (وأخبرني بويان بانشيفسكي، مراسل صحيفة «وول ستريت جورنال» في ألمانيا): إن البلاد «تشبه قطاراً يقف ساكناً بعد اشتعال النيران في محطة السكك الحديدية». واليوم، لا تتحدد القوة الجيوسياسية بمقدار القوة الاقتصادية التي يمكنك أن تمارسها، بل بمقدار الألم الذي يمكنك تحمله. وعدوك، على النقيض مما كان عليه في أثناء الحرب الباردة، ليس شخصاً مختفياً خلف ستارة حديدية، بل هو شخص تتاجر معه، وتحصل منه على الغاز، وتصدّر إليه السلع عالية التقنية. لقد أفسحت القوة الناعمة الطريق أمام المرونة.
هذه مشكلة بالنسبة إلى أوروبا. إذا كان نجاح السيد بوتين ستحدده قدرة المجتمعات الغربية على تهيئة أنفسها ومقاومة ضغوط أسعار الطاقة المرتفعة، والتضليل الإعلامي، وعدم الاستقرار السياسي على مدى فترة طويلة، فإنه يملك سبباً وجيهاً ليكون متفائلاً للغاية. وكما تبدو الأمور الآن، فإن أوروبا غير مستعدة على الإطلاق لمواجهة هذه التحديات. ويتعين على القارة التركيز على معالجة ذلك من خلال الاستثمار في القدرات العسكرية، وتنويع مصادر الطاقة، وتعزيز التماسك الاجتماعي.
الأوروبيون محقّون في اعتقادهم أن غزو روسيا لأوكرانيا ليس حتمياً، وقد يكون صحيحاً أنه ليس السيناريو الأكثر احتمالاً. ولكننا لا نستطيع خداع أنفسنا بأننا قادرون على تجاوز اختبار المرونة. يقول المثل الروسي: «إذا قمت بدعوة الدب إلى الرقص، فلن تكون أنت مَن يقرر متى ينتهي الحفل، بل إنه الدب».