الرئيسية / مقالات رأي / ألمانيا وأهمية الطرف الرشيد في التحالف الغربي

ألمانيا وأهمية الطرف الرشيد في التحالف الغربي

بقلم: السفير محمد بدر الدين زايد – المصري اليوم

الشرق اليوم – مع استمرار تداعيات أزمة أوكرانيا، والضجيج الذي تحدثه واشنطن ولندن مدعومتين بتجاوب نسبي أوروبي، تواصل السياسة الألمانية موقفها المتحفظ والرزين في إبقاء مسافة مع واشنطن، وهو موقف عبرت عنه المجر وفرنسا أيضا وإن كان بدرجة أقل وضوحا، وسنعود إلى فرنسا لاحقا، وكان قمة هذا التحفظ الألماني على لسان قائد قواتها البحرية الذى تم إقالته بسبب هذه التصريحات، ضمن مواءمات الموقف الألماني بهذا الصدد، حيث صرح الرجل خلال زيارته للهند بأنه لا يوجد أساس لحديث غزو روسي لأوكرانيا، والأهم أنه دعا إلى ضرورة معاملة موسكو وشواغلها باحترام، كما ذكر أنه لن تعود شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا. وكان من المفهوم أن حرص برلين على عدم تسبب موقفها المتحفظ في أزمة حادة مع واشنطن أن تمتص الغضب بإقالته، ولكن مع استمرار موقفها المتباعد عن واشنطن ولندن. وتبدو معالم هذا التباعد أيضا في عدم اندفاع برلين في هوجة إرسال الأسلحة والمعدات إلى أوكرانيا، بل اكتفت بدعم رمزي له دلالاته وهو إرسالها مساعدات لا أسلحة لكييف.

بطبيعة الحال ثمة دوافع عديدة لبرلين، وتركز المصادر الغربية على ما تعتبره تورط ألمانيا في خط الغاز الروسي بعد تسرعها في إغلاق كثير من منشآتها النووية، واحتياجها للغاز الروسي ومصالحها الاقتصادية والاستثمارية المتنوعة مع موسكو، ولكن حقيقة الأمر أن هذا البعد مع أهميته لا يفسر بدقة دوافع ومشاغل ألمانيا وسياستها الأكثر حكمة، فمن الواضح أن برلين سواء في قيادة ميركل أو شولتز في التحالف السياسى الحاكم حاليا تدرك أن سياسة الضغط والإذلال الغربي الحالية تجاه موسكو هي سياسة غير حكيمة، وقد أشرت هنا أكثر من مرة إلى أن الولايات المتحدة التي تكتظ دراساتها التاريخية والسياسية بدروس الحرب العالمية الأولى، وأخطاء إذلال ألمانيا وحلفائها التى أدت إلى بروز الفكر والانتقام النازي، بل من اللافت أن إحدى مدارس التفاوض التي أخرجتها الولايات المتحدة كانت تدعو دوما إلى عدم إذلال الخصم والقضاء عليه لأن هذا لا يسفر سوى عن حالة الانتقام وعدم الاستقرار. وفي مناسبة أخرى أيضا قارنت بين ألمانيا وتركيا وكيف استفادت ألمانيا من تجربتها التاريخية لبناء نموذج سياسى ديمقراطى ناضج وحريص على بناء علاقات إيجابية دوليا وفي القارة الأوروبية، بينما تخبط الأتراك تاريخيا ولاموا الآخرين ولم يمارسوا النقد الذاتي الإيجابي الذي يبني الأمم والحضارات.

وكان من أبرز محطات هذا النضج الموقف الألماني القوي المعارض لغزو العراق في مقابل الموقف المخزي لبريطانيا، ليس فقط في دعم الغزو بل الترويج والادعاء الكاذب بوجود أسلحة دمار شامل في العراق تبرر هذا الغزو، واليوم بعد مرور هذه السنوات الطويلة نسبيا منذ جريمة الغزو وكيف دمرت العراق وأطلقت قوى طائفية خبيثة وأخرى إرهابية متطرفة تفسد المنطقة، وتمكن من النفوذ الإيراني، لتصبح حصيلة المقارنة بين الموقفين الألماني والبريطاني في ملف غزو العراق شاسعة بين الحكمة في مقابل الدهاء الشيطاني، بما يجعل تقييم هذا الموقف الألماني مرجحا لمكانة دولية مستحقة.

وقبل أن نستكمل الحديث عن ألمانيا أشير سريعا إلى أن الموقف الفرنسي أيضا أكثر نضجا واستقلالية من البريطاني، ولكنه على قدر من الغموض وليس بوضوح برلين، وذلك لاعتبار أساسي وهو الانتخابات الفرنسية المقبلة، وعدم رغبة ماكرون في أن تكون المسألة الأوكرانية والعلاقات مع واشنطن وموسكو ضمن المزايدات الانتخابية على الأقل حتى الآن، ومع ذلك أجرى ماكرون اتصالين مع كل من بوتين وبايدن يشيران إلى تحركات من الجانبين للتعامل مع الحذر والجدير بالذكر أن موقف فرنسا كان حاسما في رفض الغزو الأمريكي للعراق في 2003.

واليوم نحن نواجه حالة أخرى من السياسات الغربية أو لنقل تحديدا البريطانية – الأمريكية في التصعيد وتوتير الأجواء وإذلال الآخرين دون اعتبار لمصالحهم وهيبتهم، فكما أشرنا في مقالنا السابق كانت هناك تعهدات أمريكية وأوروبية بعدم تمدد حلف الأطلنطي أو الاتحاد الأوروبي إلى حلفاء موسكو السابقين في حلف وارسو، وبشكل محدد طبعا فيما يتعلق بمكونات الاتحاد السوفيتي السابق، ولكن واشنطن وحلفاءها لم يلتزموا بذلك، ووصلنا للتعقيد الحالي. وكى لا أعيد ما طرحته في مقالى السابق فإن التصرف الأمريكي – البريطاني والضغوط المتواصلة على موسكو تجاوزت الحدود المنطقية التي لا يمكن أن تسمح به واشنطن في جوارها الجغرافي حتى البعيد، ولنذكر أزمة الصواريخ الكوبية، ولكن واشنطن تتصرف كما وصفها الصديق المفكر الكبير د.وحيد عبدالمجيد بمنطق «حلال علينا حرام عليهم».

وعموما ما يعنينا هو الدرس الآخر الذي تقدمه ألمانيا للتحالف الغربي، من تذكير بالحكمة المفتقدة في القيادة الأنجلوساكسونية لهذا التحالف ضيق الأفق، الذي يتفنن منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في اتباع سياسات واستراتيجيات خاطئة واحدة تلو الأخرى من أفغانستان للعراق، وانسحابات دون تنسيق ولا اعتبار للحلفاء ولا تشاور معهم، وكل هذا من الواضح أنه خلق لدى الشريك الألماني الكثير من عدم الارتياح وعدم الاقتناع ليكرس سياسة أكثر استقلالية وتوازنا ربما تصبح إحدى سمات التحولات الدولية المقبلة.

شاهد أيضاً

أوكرانيا

العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– فى العادة فإن الاستدلال عن سياسات إدارة جديدة يأتى من …