بقلم: راغدة درغام – النهار العربي
الشرق اليوم – لن توقّع الصين اتفاقيات عسكرية مشتركة مع روسيا أثناء زيارة الرئيس فلاديمير بوتين لافتتاح الألعاب الأولمبية الصينية وإنما ستكتفي بمؤازرة سياسية لروسيا وبيانات التذمّر مما تعتبره عنجهية الغرب، متّهمة الولايات المتحدة باختلاق أجواء الحرب الباردة.
لن ينجح وزيرا خارجية ألمانيا وفرنسا أثناء زيارتهما العاصمة الأوكرانية هذا الأسبوع ببعث الحياة في اتفاقية “مينسك” بين روسيا وأوكرانيا والتي ولدت شبه ميتة وباتت اليوم شبه مستحيلة وسط دق طبول الحرب. ليس هناك قائد أو دولة مؤهّلة للعب دور الوسيط بين موسكو وكييف، وما سعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وراء تسويقه من قدرته على الوساطة اصطدم قبل إقلاعه بحائط رفض روسيا القاطع له كوسيط بسبب مواقفه من الأزمة برمّتها، كما بسبب دعم تركيا لأوكرانيا بما في ذلك عسكرياً واعتمادها موقف حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي تنتمي إليه.
باب الدبلوماسية يبدو اليوم مغلقاً ما لم يقرّر سيد الكرملين أنه لا يريده باباً موصداً تماماً لأن الخيارات التصعيدية ستكون مكلفة جداً للاقتصاد الروسي نتيجة العقوبات الغربية التي أعدّتها الدول الأعضاء في حلف “الناتو”. لكن الرئيس بوتين يجد نفسه مضطراً لعدم التراجع أمام “الناتو” ومشاريعه في أوكرانيا وعبر توسيع العضوية فيه لأن المسألة وجودية له ولروسيا، في رأيه- فماذا سيفعل؟ كيف سيقرأ فلاديمير بوتين قيادات دول “الناتو” وبالذات الرئيس الأميركي جو بايدن؟ وهل لديه مفاجآت في أماكن أخرى فيما الأنظار منصبّة على الحدود الأوكرانية؟ أم أنه سيقرر أن مصلحته تقتضي إبقاء العالم معلّقاً على أعصابه الى حين زوال أجواء المواجهة والتصعيد بنفسها بلا حلول أو تنازلات، بلا حروب أو عقوبات؟
فلاديمير بوتين هو الذي يقرّر، وقراره ما زال في ذهنه وسط معارك التجاذب بين الدبلوماسية والعسكرة في أوساط وزارتي الخارجية والدفاع وبين مستشاريه. الأسبوع الجاري قد يكون مصيريّاً، وقد لا يحدث شيء يُذكر خلاله. قد يُعقد الاجتماع المؤجّل بين وزيري الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن والروسي سيرغي لافروف هذا الأسبوع، إنما المشكلة تكمن في فحوى ما يريد كل منهما أن يكون في صلب الحديث. فالوزير الأميركي يسعى إلى التحدّث عن مسائل الأمن، والوزير الروسي لديه تعليمات من رئيسه بأن يكون لب الحديث حول الضمانات التي طالب بها الرئيس بوتين بشأن أوكرانيا وعضوية “الناتو” وتواجد القوات الغربية في منطقة نفوذ روسيا. مطالب فلاديمير بوتين لاقت الرفض القاطع من دول “الناتو” وإنْ كان رفضاً مغلّفاً بقليل من اللطف والاستعداد للأخذ والعطاء إنما ببعدٍ قاطع عن الضمانات المطلوبة. وهذا ما لا يعجب سيد الكرملين الغاضب، والغاضب جداً.
كل الأطراف المعنيّة قلقة ومتوتّرة. الرئيس بوتين سيتجنّب التصعيد عسكرياً عمداً أثناء زيارته الصين -والتي تنتهي اليوم الأحد- كي لا يعكّر على الألعاب الأولمبية ويزعج حليفه. هذا منطقي. إنما ماذا لو حدث حادث في دونباس أو غيرها من المواقع المتأهّبة للانفجار؟ أو ماذا لو صدقت المعلومات الاستخبارية التي تسوّقها واشنطن وتفيد بخطة روسية لتلفيق ذريعة لغزو أوكرانيا عبر تصوير “اعتداء مفبرك” تشنه قوات أوكرانية على الأراضي الروسية أو في شرق أوكرانيا حيث المتحدثون بالروسية؟
صنّاع القرار في روسيا وفي دول حلف شمال الأطلسي ينصبّون على درس مختلف السيناريوات، ويتهيّأون. هناك من يستعدّ لتسويات تبدو مستحيلة الآن مثل إحياء عملية “مينسك” التي رعاها الأوروبيون علماً أن لا موسكو ولا كييف قادرتان على إعادة عقرب الساعة إلى الوراء في دونباس.
هناك من يراقب بيلاروسيا حيث تحشد روسيا آلاف القوات وتقوم بمناورات عسكرية مشتركة وحيث يمكن لروسيا أن تحدّق في عيون كييف البعيدة مجرد ساعات من الحدود الأوكرانية مع بيلاروسيا بحشد من القوات الروسية، وبدعوة من الحكومة البيلاروسية والرئيس الكساندر لوكاشينكو. بولندا ستشعر بالضيق، وكذلك ليتوانيا ولاتفيا، إذا ما اعتمدت روسيا سياسة التضييق العسكري عبر بيلاروسيا لتطويق أوكرانيا.
البعض يستذكر مفاجآت فلاديمير بوتين عندما قام بغزو الشيشان عام 1999 واستولى على شبه جزيرة القرم عام 2014. البعض يشير الى حذاقة فلاديمير بوتين في بسط النفوذ الروسي في سوريا منذ 2015، وإنشاء قاعدة حميميم الجوية الاستراتيجية في اللاذقية، وامتلاك القرار في سوريا عبر الشريك الضروري لها، الرئيس السوري بشار الأسد. وهذا البعض يراقب عن كثب لعل في ذهن بوتين مفاجآت نوعية.
ثم هناك من يتوقّع أن يحوّل فلاديمير بوتين الأزمة فرصة ليزعم أن تصعيده فرض على الغرب عموماً والولايات المتحدة بخاصة الجلوس إلى طاولة المباحثات الأمنية في أوروبا. يمكنه أن يلعب الورقة الإيرانية ليبدو أنه القائد الحريص على مصير المحادثات النووية في فيينا والقادر وحده على إقناع طهران بالتنازلات الضرورية لإحياء الاتفاقية النووية JCPOA- فيخدم إدارة بايدن بدلاً من تطوير العداء معها.
الأسبوع المقبل مُهمّ جدّاً على صعيد محادثات فيينا كما في ساحة الأزمة الأوكرانية. لكن صنّاع القرار في العواصم الغربية وفي موسكو بدأوا يدرسون الخيارات في حال فشل المحادثات أو في حال نجاحها، في حال انحسار التصعيد في أوكرانيا أو انفجاره بغزو أو توغل روسي هناك.
روسيا تخطط لنشاطاتها عالمياً ضمن كل السيناريوات، بما في ذلك تفعيل جبهات بعيدة من أوروبا إذا ما تطوّرت الأزمة إلى مواجهة بينها وبين دول حلف شمال الأطلسي- وفي بالها تكتّل العداء للغرب والكتلة التي تشمل فنزويلا ودولاً في البحر الكاريبي وإيران وبالطبع الصين.
بحسب المعلومات، بدأت موسكو رسم السياسات الممكنة أمام التطوّرات الواردة في فيينا. إيران حليف دائم في السيناريوات الروسية، لكن نوعية السلوك الإيراني الإقليمي في حال نجاح المباحثات النووية ستتطلّب سياسة روسية معيّنة تسعى الى حصاد الاستثمار الروسي في النجاح. أما في حال فشل المباحثات، فإن الانتقام الإيراني المرتقب يدفع بالحليف الروسي إلى دراسةٍ مختلفة، لا سيّما أن موسكو لا تريد العداء المباشر مع الدول الخليجية التي لها معها مصالح واستثمارات. موسكو لا تريد مثلاً تقييد نفسها في عداء مع إسرائيل إذا تم احتواء وتطويق أزمتها مع الولايات المتحدة، لكنها جاهزة لاستخدام العداء الإيراني مع إسرائيل لمصلحتها إذا تطوّرت الأمور الى مواجهة مع الغرب وذلك للانتقام من الولايات المتحدة.
ما تعمل عليه المؤسّسة السياسية الروسية هو إيجاد مفهوم أو تصوّر concept جديد للسياسة الخارجية الروسية وخطة جديدة للنشاطات الروسية بما فيها نحو الشرق الأوسط. كمثال، يدرس خبراء صنع القرار الروسي ماذا سيكون عليه الأمر في موضوع سوريا حيث هناك حالياً جمود وطريق مسدود deadlock فيما أراد الرئيس بوتين إبراز سوريا بطاقة وشهادة نجاح استراتيجي وسياسي له ولروسيا.
الآن، تبدو روسيا في حاجة إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية والى “حزب الله” في سوريا، لا سيّما كشريك في الانتقام من الغرب، ما يكبّلها ويسحب عنها اليد الأعلى والأقوى. هذا بدوره يجبر موسكو على أن تكون في خانة واحدة مع إيران و”حزب الله” في موضوع لبنان بقيادة من أجندة “الحرس الثوري” الإيراني. وهذا يحرج الدبلوماسية الروسية التي وجدت نفسها مضطرة للتواصل مع الدبلوماسية الكويتية للتحدّث عن المبادرة الخليجية للبنان لتشجيعها كمنطلق، إنما ليس لدعمها بالتفاصيل، علماً أن طهران و”حزب الله” يرفضان بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي ما يعني تنفيذ القرارين 1701 و1559 ونزع سلاح “حزب الله”.
حالياً، ما تتلاقى عنده الدبلوماسية الروسية والدبلوماسية الخليجية وكذلك الدبلوماسية الأميركية والأوروبية هو الرغبة في وقف التصعيد. الدبلوماسية الإماراتية تواصلت مع الدبلوماسية الإيرانية عبر اتصال هاتفي بين وزير الخارجية عبدالله بن زايد ونظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان للتشديد على ضرورة وقف التصعيد الخطير في المنطقة والالتزام بالحل السياسي في اليمن. الإمارات اختارت نزع الفتيل ولجم التصعيد إزاء التهديدات والهجمات التي شنتها مجموعات حوثية على مرافق في الإمارات. والوزير الإيراني تحدّث بلغة “العمل لمنع مصادر الأزمات من اتخاذ موطئ قدم لها في المنطقة” مشيراً إلى أن “حضور الكيان الإسرائيلي في المنطقة تهديد لكل دولها”، واعتبر أن “استمرار الحرب في اليمن ليس لمصلحة أي طرف”.
كذلك الأمر في ما يخص المحادثات السعودية – الإيرانية التي يُفتَرض عقد الجولة الخامسة منها في العراق والهادفة الى تفاهمات تبدو اليوم صعبة المنال. لكن مجرّد استمرار المحادثات مؤشر إيجابي في نظر الدول الخليجية والولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا.
التأزم والتوتّر والقلق نتيجة الأزمة الأوكرانية تحبس الأنفاس أينما كان، لا سيّما في ظل غموض القرارات التي سيتخذها فلاديمير بوتين. لكن صنّاع القرار لا يستطيعون الانزواء ريثما تنفجر المواجهة أو تنحسر. ولذلك الكل يجلس إلى طاولة رسم الخيارات والسيناريوات تحسّباً لإفرازات وتداعيات ما سيفعله سيّد الكرملين بعدما زجّ نفسه في الزاوية.