بقلم: محمد جميل – اندبندنت العربية
الشرق اليوم- فيما لا يزال الانسداد يراوح مكانه، بين إصرار المكوّن العسكري على اغتصاب بالسلطة، وحراك الشعب السوداني عبر التظاهرات الثورية المتجددة من أجل استعادة السلطة المدنية، يعكس المشهد تعقيداً كبيراً يتزايد مع كل يوم.
ومع تمام المئة يوم للانقلاب العسكري، أصبح الوضع في السودان على نحو أكثر تعقيداً وعلى نحو مفتوح على كثير من المخاطر التي نجمت وستنجم عن ذلك الانقلاب.
المشهد السياسي اليوم في السودان ينطوي على تقاطعات متعددة المصالح، وتنخرط فيها أجندات دولية وإقليمية باتجاهات متناقضة أيضاً، لكن في الوقت ذاته ثمة قوة أساسية هي بمثابة بؤرة مركزية للثورة في تحريك الأوضاع بعد انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ونعني بذلك، التنظيمات الأفقية الموحدة للجان المقاومة في كل أنحاء السودان، فهي اليوم باتت البوصلة الموجهة للحراك الثوري بتماسك ظاهر وقدرة ملحوظة على إدارة نشاط حي ومتواصل.
ثقل لجان المقاومة اليوم أصبح أكثر تأثيراً – كما ذكرنا من قبل في أكثر من مقال – بفعل قدرة تلك اللجان على طرح رؤية عامة واضحة مفادها: الإصرار على مواصلة الثورة والقطع مع أي إمكانية لعودة الجيش ونظام الإخوان المسلمين مرةً أخرى إلى حكم البلاد، بعد ثلاثين عاماً من الخراب.
وكان واضحاً أن الذي يهيمن على التفكير السياسي للمعارضة اليوم هو كيفية تدبير وحدة سياسية لجبهة الثورة تحت قيادة واحدة، وبدا ذلك في أكثر من تصريح لقيادات بعض الأحزاب السودانية.
وفي تقديرنا أن الدفع باتجاه البحث الحثيث عن تكوين جبهة معارضة سياسية موحدة بقيادة موحدة هو ما تنتظره جماهير الثورة، من ناحية، وهو كذلك ما ينتظره المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة من ناحية ثانية، لا سيما إذا ما أدركنا أن الرهان على تفتيت قوى الثورة أصبح الهم الأكبر للانقلابيين عبر بعض الخطوات التي تعرضنا لها في مقالنا السابق من خلال محاولة المكون العسكري الحاكم، الاستعانة بالقبائل والطرق الصوفية، إلى جانب تنسيقه مع قوى الثورة المضادة من بقايا نظام الإخوان المسلمين في سباق محموم وفاشل.
وبحسب صحيفة “الانتباهة” السودانية، فإن إعلان تجمع المهنيين السودانيين (المجلس المركزي) – وهو غير تجمع مهنيين آخر منسوب للشيوعيين – الالتفاف الآن حول قيادة جديدة هي لجان المقاومة في العاصمة والولايات، تعتبر خطوة ذكية تعكس وعياً سياسياً متقدماً من تجمع المهنيين (المجلس المركزي) وتؤكد قدرة هذا التجمع على التقاط روح المبادرة ورؤيته للحظة الوطنية التاريخية التي تقتضي وحدة المعارضة لهزيمة الانقلاب.
وفيما تعلن قوى الحرية والتغيير تماهياً واضحاً مع خط لجان المقاومة، فإن الساحة السياسية اليوم تنتظر الميثاق السياسي الذي تعكف عليه لجان المقاومة لطرحه أمام القوى السياسية، خلال أيام، وردود الفعل المتوقعة على ذلك الميثاق.
وعلى ضوء طبيعة مواد هذا الميثاق السياسي للجان المقاومة، ستفرز الأيام المقبلة متغيرات مهمة، لأن ماهية هذا الميثاق المترقب ستكشف عن موجهات يتعيّن على القوى السياسية وتيار الثورة العام تطوير العمل السياسي والثوري وفق مقرراتها.
وفي تقديرنا أن الخط العام للقراءات السياسية اليوم في السودان حيال تدبير موقف لمعارضة نشيطة في المزج بين العمل السياسي والثوري يتجاذبه اتجاهان:
الأول: الاتجاه الذي يطرحه الحزب الشيوعي، إذ يرى هذا الحزب أن هناك جملة من المواقف تعبّر عن موقفه يلخصها في: رفضه لأي حوار مع العسكر تماماً، ورفض التعاطي مع مبادرة الأمم المتحدة التي يقودها فولكر بيرتس، رئيس البعثة المتكاملة للأمم المتحدة في السودان (يونيتامس)، إلى جانب الرفض القاطع للتدخل الدولي والمحاور الإقليمية – كيفما كان هذا التدخل – وعدم التجاوب مع كل تدابير وسياسات المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرهما!
بطبيعة الحال، سردية الرفض هذه التي يطرحها الحزب الشيوعي اليوم في الساحة قد تجد بعض الذين تفاعلوا معها من لجان المقاومة، لكن هذه السردية ينطوي زيفها الظاهر على ما يدل عليه معناها الحقيقي – بعيداً من الشعارات الأيديولوجية والادعاءات الخطابية – فحين يفترض الحزب الشيوعي أن الشعب السوداني اليوم له الإمكانية المطلقة، الآن وهنا، في أن يكون مكتفياً بذاته وأن ينهض من عثراته من دون مساعدة أحد من المجتمع الإقليمي والدولي، نظراً إلى ما يملكه السودان من ثروات وإمكانات، سنجد أنفسنا مباشرة أمام زيف هذا الاتجاه، لأن حيثيات تلك الرؤية حيثيات شعاراتية وهي في تقديرنا بمثابة “شيك بلا رصيد” لأنها رؤية عدمية تسقط من اعتبارها الخراب العظيم الذي لحق بجهاز الدولة وبنيتها العامة من تدمير وفساد وانقسام للوطن وحروب أهلية وانتشار العصبيات والقبائلية التي رعاها نظام البشير!
وواضح جداً أن سردية الشيوعيين – على الرغم من غنائيتها وأناشيدها وشعاراتها وحماستها – لا تعكس وعياً سياسياً دقيقاً بموازين القوى، وقوانين الواقع ولا تستصحب تعقيدات كثيرة أصبح من الأهمية بمكان اليوم استصحابها في تقدير أي موقف سياسي كقوة المجتمع الدولي وسلطته الفاعلة، إذ كيف يمكن لاتجاه سياسي جاد إهمال تأثيرات مجتمع دولي له القدرة على إحداث الفرق الهائل، خصوصاً إذا ما قرر هذا المجتمع الدولي الاصطفاف إلى جانب قوى الثورة السودانية؟.
ولقد كانت طبيعة تلك الرؤية للحزب الشيوعي واضحة تماماً في كونها نظرةً مؤدلجة تسقط من حساباتها أي اعتبار جاد إزاء تقييم تعقيدات الواقع السياسي، عبر تصريحات إعلامية لعدد من قيادي وقياديات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي.
الاتجاه الثاني هو اتجاه عام في قوى الحرية والتغيير يغلِّب نظرة السياسة الواقعية التي تتفهم ضرورة وأهمية التعاون مع المجتمع الدولي والاستفادة من ضغوطه واستثمارها لمصلحة الثورة والشعب، فذلك الاتجاه الواقعي العقلاني هو الذي قاد القوى السياسية عبر تحالف قوى الحرية والتغيير عام 2019 إلى اتفاق 17 أغسطس (آب) الذي تم بموجبه التوقيع على الإعلان السياسي والدستوري الذي عبّرت عنه المرحلة السابقة للفترة الانتقالية المجهضة بانقلاب 25 أكتوبر الماضي.
اليوم تكمن ضرورة الحوار وأهميته في إدارة نقاشات سياسية مسؤولة بين قوى الثورة كافة للخروج بتقديرات لمواقف عقلانية تكترث لخطورة الوضع وتدرك طبيعة الأزمة، ومن ثم تبلور التصرف الصحيح للتعاطي مع الوضع السياسي المأزوم.
ومن الأهمية بمكان أن يقود هذه الحوارات بين القوى الثورية مفكرون سياسيون وليس فقط قادة الأحزاب وكوادرها، خصوصاً أن لجان المقاومة ينبغي أن تكون هي المصهر الذي تتم داخله هذه الحوارات الجادة، لأنها الجسم الحي للثورة، ولأن الإصغاء إلى رؤى المفكرين السياسيين من طرف الفاعلين في لجان المقاومة وقادتها جزء ضروري في بناء الموقف السياسي الصحيح.
وفي هذا الصدد، من المهم اليوم الاستماع إلى صوت مفكر سياسي سوداني يحظى بتقدير كبير بين القوى السياسية ولجان المقاومة وهو الأستاذ الحاج وراق الذي يعتبر في تقديرنا – مع قلة آخرين – من أهم المفكرين السودانيين الذين يملكون قدرات فكرية ومعرفية ناضحة في قراءة الوضع السياسي السوداني المعقد محلياً وإقليمياً ودولياً بأدوات تحليل منهجية، لها قدرة متجاوزة واستثنائية على بلورة مواقف وصياغات متماسكة في تفسير الأحداث واستخلاص النتائج الأكثر موضوعية ورشداً.
من المهم للجان المقاومة اليوم أن تستبصر في مواقفها وتستعين برؤى مفكرين مستقلين من أمثال الحاج وراق وغيره، لبناء مواقف نظرية وسياسية أقرب إلى الرصانة والعقلانية وأكثر بعداً من الأيديولوجيات السياسوية المتمانعة للأحزاب.
نقول ذلك باستمرار ونحرص عليه من أجل تطوير مواقف سياسية أكثر نضجاً باتجاه توحيد قوى الثورة السودانية، وفي القلب منها لجان المقاومة، التي لا ينقصها اليوم التخطيط والحماسة والحشد والعزم والقوة والإصرار والشجاعة على تحقيق أهداف الثورة، بقدر حاجتها إلى بلورة مواقف سياسية عقلانية قائمة على تقدير المصالح الوطنية الموضوعية العابرة لسقوف الأحزاب باتجاه سقف المصير الوطني المهدد بالفوضى، لا سيما أنه ثمة نقاشات سياسية حادة بين المشرعين وسياسيي الحزبين، الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة باتجاه أكثر ضغطاً وشدة على المكوّن العسكري في السودان (كما شهدنا ذلك في الجلسة العاصفة للجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس يوم الثلاثاء الماضي ومناخ النقد الحاد الذي تم فيه الاستماع إلى إفادات مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية مولي فيي حول حقيقة الأوضاع في السودان).
إن حاجة قوى الثورة – وعلى رأسها لجان المقاومة – اليوم إلى بلورة مشروع خطاب سياسي موحَّد من خلال جبهة واحدة وقيادة واحدة هو الذي سيعجّل بسقوط انقلاب 25 أكتوبر الماضي.
وينبغي أن يكون غير خافٍ على القوى الثورية والسياسية أن التقديرات العقلانية لمصلحة الوطن – في ظل وجود مهددات حقيقية لمصيره الكياني – هي التي يجب أن تقود البوصلة الأخلاقية والسياسية النزيهة للجان المقاومة حتى ولو أفضت نتائجها إلى تسويات صعبة تحقق بها في النهاية أهداف الثورة، وتُبقي على وحدة الوطن وعافيته، وتستأنف مرحلة انتقالية جديدة بضمانات دولية وشروط جزائية ورقابة من المجتمع الدولي تضمن قوة انتقال سياسي سلس لهذه المرحلة العصيبة التي يمر بها السودان.
واليوم من الأهمية بمكان أن يكون منسوب الحصافة والوعي العميق في التفكير والطرح السياسيين للجان المقاومة أكبر من أي شعارات هتافية لا تملك وعياً سياسياً ولا تدرك تعقيدات واقع سوداني يوشك أن يسقط في الظلمة.
إن مأزق الذين يراهنون على خيارات الحماسة العدمية والصفرية لبعض الأحزاب الأيديولوجية كـ”الحزب الشيوعي” اليوم يكمن في أن: الأيديولوجيا التي تقودهم سيكون شأنها كشأن الذي لا يفيق إلا بالصدمة، حين يصطدمون بجدار واقع لا ترحم قوانينه الصارمة أحداً، حينها لا ينفع الندم لأن من يفيق من الصدمة عندئذ لن يجد الوطن!؟