بقلم: محمود حسونة – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- إذا تأملنا مصادر إشعال الحروب حول العالم سنجدها ذاتها، لم تتغير منذ الحرب العالمية الثانية، بصرف النظر عمّا إذا كانت هذه الحرب أو تلك، تحدث هنا أو هناك، فكل ما يهم هو أن تشتعل حرباً وتدمر دولاً وتستهلك سلاحاً وتغيّر أنظمة وتخلخل أقاليم وتقتل آلافاً وتشرد ملايين وتيتّم أطفالاً وترمّل نساء.
وبمزيد من الدقة، فإن قرارات الحروب تخرج من نفس الغرفتين على مدى عقود، ومعها تتحدد ملامح الحرب، وإذا ما كانت شاملة أم باردة أم إعلامية، المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، والمكتب الرئاسي في الكرملين، والقرار صيغته دائماً شبه محددة؛ بل وثابتة بصرف النظر عمن اتخذه. ومن هذين المكتبين تتم إدارة العالم واقتسام الغنائم.. في هذه البقعة يشعلون حرباً، وفي بقعة أخرى يخلقون فتنة، وفي ثالثة ينشرون الفوضى، وفي رابعة يفرضون حصاراً يفرز فقراً ومجاعات. وخلال العقد الأخير أطلت الصين فارضة نفسها كقوة أوجدت لنفسها مناطق نفوذ حول العالم، وأصبحت مصدر تهديد قد يتحطم فوقها إحساس القوة الأمريكي.
قرارات الحروب التي تتخذ في هذا المكتب أو ذاك تمر بعدد من المراحل حتى تصل إلى مرحلة التنفيذ، وقد تعطلها وتمنع تنفيذها حكمة بعض المستهدَفين بها وهو أمر نادر، فبعد اتخاذ القرار تبدأ مرحلة تسويقه والترويج له، وهي المهمة المشتركة بين الآلة الإعلامية التي تحرك العالم وتنشر فيه الشائعات وتستخدم أداة عقاب لكل من لا ترضى عنه القوى العظمى من الرؤساء والأنظمة حول العالم، كما تشارك في عملية التسويق الدبلوماسية الأمريكية والغربية في مواجهة الروسية وأحياناً الصينية، والعكس صحيح، فالكل يدق بشكل “متناغم ومتضاد” طبول الحرب، والكل يجهز الرأي العام العالمي لخراب قادم، والكل يدعو للاستعداد لموجات من النزوح واللجوء والهجرة. باختصار الكل يرتب لأوضاع جديدة في هذا الإقليم أو ذاك، ويستخدمون في ذلك من أدوات الإقناع كل شيء مشروع وغير مشروع حتى تتم برمجة العقل الجمعي العالمي على القبول والتسليم بالحرب الآتية، وبعدها تبدأ آلات حصد الأرواح وتخريب المدن وتدمير الكوكب في أداء مهامها.
السيناريو الذي نتابع فصوله حالياً في أوكرانيا ليس جديداً، وشاهدنا ما يتطابق معه في العراق، والنتيجة أمام أعين العالم حتى لو تعامى بعض أصحاب المصالح عنها، فالعراق احتلوه بالأكاذيب وهدموه تحت دعاوى نشر قيم الديمقراطية، ونشروا الفوضى في ربوعه بوهم أنها خلاقة، وهم يعلمون أن الهدف لم يكن صدام حسين ولا نشر ديمقراطية، إنما هدم دولة، وزعزعة استقرار منطقة.
اليوم، نعيش في ظل حالة مماثلة، فالأمريكان يصرون أن الاجتياح الروسي لأوكرانيا بات وشيكاً، وأن ساعة الصفر خلال ساعات، ويتوعدون الروس برد موجع، في حين أن الرئيس الأوكراني حليف الأمريكان يصرخ مطالباً بوقف نشر الذعر بين أبناء شعبه عبر أخبار كاذبة، وبعض أركان نظامه يتفرغون للرد على ما يعدونه أكاذيب أمريكية، وبريطانيا تلتزم الدور التاريخي كمجرد تابع، وأوروبا تتأرجح بين التصعيد أحياناً ضد الروس ثم الدعوة إلى التهدئة؛ لإدراكها أنها ستكون أول الخاسرين حال اندلاع حرب بصرف النظر عن نتائجها.
في المقابل يخوض الدب الروسي معركته النفسية بأعصاب هادئة، والعالم حوله يحترق، ويؤكد أنه لا يريد حرباً، ولكنه في ذات الوقت لا يقبل بانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، ويطالب بضمانات أمنية، فهو لن يستسيغ أن يقتحم الغرب مناطق نفوذه، ولن يسمح له بالتوغل في جمهوريات اتحاده السوفييتي السابق.
نعم الاتحاد السوفييتي انهار، ولكن جمهورياته ستظل مناطق نفوذ لروسيا، وسيظل هو الذي يتصدى لمحاولات التجاوز أو التغيير فيها، ولعل درس كازاخستان لا يزال ماثلاً في الأذهان، فما لبثت أن اشتعلت تظاهرات الغضب في الجمهورية السوفييتية السابقة، حتى اندلعت معها مظاهر القوة الروسية الغاضبة من كل من يحاول الاعتداء على سيادة هذه الدولة، وكازاخستان ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ولعل ما حدث في أوكرانيا ذاتها عام 2014 سيظل حاضراً في أذهان الجميع.
أوكرانيا ستظل منطقة تماس بين المصالح الروسية والإرادات الغربية، وستظل من مفردات الحرب الباردة الجديدة، منطقة مشتعلة بالتوتر الذي يغذيه بركان الطمع الأمريكي، ومشبعة بالخوف الذي يفرضه صقيع النفوذ الروسي.