بقلم: بيشوي رمزي – اليوم السابع
الشرق اليوم – مازالت الأزمة الأوكرانية بمثابة العنوان الرئيسى الذي يهيمن على الساحة الدولية في المرحلة الراهنة، في ظل حالة يمكننا تسميتها بـ”التراكم” الصراعي، فالرؤية الأولى للمشهد تبرز حالة من الصراع التقليدي بين دولتين (روسيا وأوكرانيا)، بينما تحمل في طياتها صراعا أكبر بين قوى عظمى، في الوقت الذي تبرز فيه صراع تاريخي ثالث يعود إلى بقايا الحرب الباردة، مع تداخل حلف الناتو، على خط الأزمة، ليصبح وجوده على الحدود الروسية بمثابة “خط أحمر” رسمته القيادة الحاكمة في موسكو، ربما تضع نهاية لحالة من التوسع اعتمدها التحالف منذ نهاية الحرب الباردة، في محاولة لتطويق الروس، بحيث لا يمكنهم العودة مجددا إلى السيطرة على محيطهم الجغرافي.
ولعل “خط بوتين الأحمر”، بمثابة رسالة قوية تمثل انعكاسا لحقيقة مفادها أن موسكو استعادت قدرا كبيرا من نفوذها ليس فقط على المستوى الإقليمى، وإنما تجاوزت ذلك عبر دور دولي أكبر سواء في الشرق الأوسط من البوابة السورية، ثم العراق وليبيا، أو في آسيا عبر التعاون مع القوى الرئيسية وعلى رأسها الصين، والتي تمثل الخصم الرئيسى للولايات المتحدة على العرش الدولي، وحتى أوروبا الغربية، والتي تجاوزت الخصومة القديمة مرحليا عبر التعاون مع موسكو في مجال الغاز، وهي الأدوار التي قام بها الروس بكفاءة كبيرة بينما ساعدهم على القيام بها، حالة التراجع الأمريكي، والذي يمثل في جزء كبير منه سببا رئيسيا في حالة الضعف التي انتابت حلف “الناتو” الذي يعتمد بصورة رئيسية على الولايات المتحدة، سواء من ناحية التسليح أو التمويل، وحتى المساهمة البشرية، حيث يبقى الجنود الأمريكيين هم الجزء الأكبر من التحالف.
سياسة رسم الخطوط الحمراء، ربما باتت سمة رئيسية للقوى التي تمكنت من العودة مجددا من الوراء، حيث يعكس قوة كبيرة في التفاوض لأصحابها، بينما يجبر القوى الأخرى على تقديم المزيد من التنازلات، وهو ما يبدو بوضوح في النموذج الأوكراني، حيث تراجع الحديث جزئيا عن فكرة المواجهة العسكرية، إلى الحد الذي دفع بعض القوى الأوروبية إلى التوقف عن تقديم السلاح للجيش الأوكراني، على غرار ألمانيا، والتي استبدلت صفقة سلاح كان من المقرر تقديمها لكييف، بـ”خوذ” للجيش، في إطار محاولة لعدم استفزاز موسكو، بينما تراجعت التصريحات الأمريكية نسبيا، من التهديد إلى العقوبات، وأخيرا اتجهت نحو وضع “الضمانات الأمنية” التي طالبت بها موسكو بعين الاعتبار.
“الخطوط الحمراء” ليست نهجا جديدا تماما على الساحة الدولية، فقد شهدت انتشارا كبيرا في العديد من المناطق حول العالم، ربما أبرزها الشرق الأوسط، عندما واجهت مصر بها بعض التهديدات التي سعت لفرضها قوى إقليمية ودولية على محيطها الجغرافي، بينما سيطر هذا النهج على الحوار بين روسيا والولايات المتحدة في الأشهر الماضية، إلى الحد الذى دفع قطاعا كبيرا من الخبراء إلى تسمية القمة التي جمعت بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي جو بايدن قبل عدة أشهر بـ”قمة الخطوط الحمراء”.
وهنا يصبح العالم على موعد مع صفقة، تنتهي بها المعركة الكلامية الدائرة، بين روسيا والولايات المتحدة، تقوم في الأساس على تحييد الناتو، الذى بات دوره محدودا للغاية، في السنوات الماضية، وهو ما عبر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 2019، عندما وصفه بـ”الميت إكلينيكيا”، في انعكاس صريح لتراجع دوره، مما يمثل إحياء لمقترحه آنذاك، بتشكيل قوة أوروبية موحدة، يمكنها أن تحل محل القوات “الأطلسية”، وتفتح الباب أمام حالة من “بداية النهاية” للتحالف الذي يحمل رمزا للمعسكر الغربي منذ بداية الحرب الباردة.
ربما تبقى الأزمة الأوكرانية حامية الوطيس من حيث التصريحات، ولكن تطغى عليها الدبلوماسية “الصلبة”، بينما الخيار العسكري ربما ليس مطروحا على الإطلاق، لتكون في جوهرها حلقة أخرى من حقبة دولية جديدة، تقوم على ما يمكننا تسميته بـ”السلام الساخن”، عبر تشكيل التحالفات “الخشنة” التي لن تعتمد في أغلب الأحوال على التطابق الكامل في وجهات النظر، وإنما ربما تقوم في جزء كبير منها على الأبعاد المصلحية القصيرة وربما متوسطة المدى.