بقلم: د. إدريس لكريني – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – تحيل الديمقراطية (في دول العالم التي تعتمد النظم الديموقراطية) إلى مجموعة من المعاني والدلالات في علاقتها بتداول السلطة بصورة سلمية ومشروعة، واعتماد الشفافية والتعددية السياسية، وإلى المشاركة السياسية التي تسمح لأبناء الدول بتدبير شؤونهم، والتأثير في مختلف القرارات والسياسات ذات الطابع العام عبر انتخابات حرة ونزيهة، إضافة إلى احترام حقوق الإنسان في بعدها الكوني، وإدارة الأزمات وتدبير الاختلاف والتنوع داخل المجتمع بصورة بناءة وديمقراطية.
إنها تجسيد لمسار متدرّج يعتمد اتخاذ مجموعة من التدابير والإجراءات، على طريق الانتقال من نمط سياسي شمولي مغلق إلى آخر ومنفتح يدعم مشاركة المواطن، من خلال مؤسسات وتشريعات وعلاقات جديدة تسمح بتداول السلطة بشكل سلمي.
تتعدّد مداخل الديمقراطية حول العالم، حيث تتحكم في ذلك عدة اعتبارات مرتبطة بالفضاء الذي يحتضنها وبطبيعة النخب القائمة، وعلاوة على أهمية المداخل القانونية في علاقتها بإقرار دستور ديمقراطي وإصلاح القضاء، والسياسية في ارتباط ذلك بتنظيم انتخابات نزيهة، وانخراط الأحزاب السياسية، وتحييد المؤسسة العسكرية، وإعمال آلية العدالة الانتقالية، تبرز أهمية دور الإعلام في هذا الخصوص.
وفي الوقت الذي لا تخفى فيه مساهمة الإعلام بكل قنواته المكتوبة والمرئية والمسموعة والإلكترونية في تعزيز وترسيخ الممارسة الديمقراطية، وتأمين مراحل الانتقال بتعزيز النقاشات البناءة ونقل المعطيات والأخبار والمعلومات بقدر من العقلنة والأمانة، علاوة على ترسيخ ثقافة الحوار والتواصل، تلعب الممارسة الديمقراطية نفسها دوراً متميزاً في إعداد المناخ اللازم لبروز إعلام حر ومستقل يدعم حرية التعبير، وحقوق الإنسان بشكل عام.
لقد ساهمت التكنولوجيا الحديثة وتطور شبكات التواصل الاجتماعي في تعزيز حرية التعبير بشكل غير مسبوق، بعدما أصبحت تعجّ بالمواقف والآراء المختلفة، وأضحت معه منبراً للدفاع عن الحقوق والحريات، والتعريف بمختلف المشكلات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، ولدعم قضايا حقوق الإنسان، بعدما فتحت آفاقاً واعدة وواسعة أمام فئات مجتمعية للتعبير عن آمالها، وآلامها، وهو ما حوّلها من تقنيات للتواصل والتعارف إلى منابر مؤثرة في ارتباط ذلك بإسماع الأصوات المهمّشة، وبناء اتجاهات الرأي العام داخل المجتمعات بصدد قضايا كبرى إقليمية، وعالمية.
يعتبر الإعلام بمثابة سلطة رابعة بالنظر إلى المهام التي يستأثر بها على مستوى دعم الحقوق والحريات، وتنوير الرأي العام بالمعلومات والأخبار، فهو رسالة أكثر منه وظيفة، وهي المهام التي لا يمكن أن يستأثر بها الإعلام إلا باحترام مكانته وممارسة أدواره المتصلة بالتنشئة الاجتماعية وترسيخ ثقافة ديمقراطية، وكشف الاختلالات والخروقات وإرساء نقاشات عمومية راقية، في إطار من الثقة والكفاءة والمصداقية والانفتاح، واحترام القوانين والحقوق.
تحفل الممارسات الدولية بعدد من تجارب التحول نحو الديمقراطية في أوروبا وآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، التي كان للإعلام الحر والمسؤول دور كبير فيها، على مستوى فتح نقاشات هادئة ومنفتحة، ترسخ قيم المواطنة، وتدعم المشاركة السياسية والتغيير السلمي، بعيداً عن كل أساليب العنف والترهيب.
وفي مقابل ذلك تشير الكثير من الدراسات إلى الدور السلبي الذي يمكن للإعلام أن يلعبه في صد التحول، عبر نشر الأكاذيب والتمويه على الحقائق، والتخويف والتهويل من أي تطوير.
ونظراً للتحولات الدولية التي حدثت في بداية التسعينات وما تلاها من تراجع المفاهيم التقليدية للسيادة وبروز قدر كبير من الانفتاح والتواصل بين الدول، إضافة إلى الثورة التكنولوجية المذهلة في مجال الاتصالات، وتحرير القطاع الإعلامي في عدد من دول العالم، وسهولة الولوج إلى القنوات الإعلامية الدولية، شهد الإعلام قدراً من التطور والانفتاح في الدول العربية وإن بدرجات متفاوتة.
إن ما يضاعف مسؤولية الإعلام في هذا الصدد، هو الطفرة النوعية والكمية التي شهدها تدفق المعلومات، مع الثورة التي أحدثها الإنترنت في هذا الصدد، بخاصة مع انتشار شبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت تعج بالأخبار والمواقف والمعلومات التي لا تخلو من تضارب، وانحراف أحياناً.
تعيش العديد من الدول العربية على إيقاع صراعات ونزاعات داخلية أو بينية، خلفت الكثير من الخسائر والتداعيات على مختلف الواجهات، وأسهمت الكثير من وسائل الإعلام في تأجيجها، وتعقيدها، بدل توفير المناخ الكفيل باحتوائها. والواقع أن ما تشهده المنطقة العربية من إشكالات سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية، يقتضي انخراط الإعلام إلى جانب عدد من النخب والفعاليات المدنية في ترسيخ نقاشات بناءة، تدعم الحوار والتعايش، ونبذ العنف والانغلاق، وتعزيز الممارسة الديمقراطية.