بقلم: أحمد نظيف – النهار العربي
الشرق اليوم – شتات غير مسبوق يعيشه اليسار الفرنسي قبل أسابيع قليلة من الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، فيما تدل المؤشرات إلى تسجيل هزيمة تاريخية يسارية، هي الأكبر منذ عقود.
انتكاسة جديدة فسرها الوزير الاشتراكي السابق لوران فابيوس ببعد اليسار عن هموم الناس، وعن الطبقات التي يمثلها تاريخياً، وبضعف الخطاب السياسي لقياداته. وهو تفسير شديد الوجاهة، وخصوصاً أن فابيوس يؤكد من خلال نفي مزاعم قادة اليسار الفرنسي أن الأزمة عالمية، ويعاني منها اليسار في كل مكان، حيث يشير إلى أن الحيوية التي يحظى بها اليسار في كل من ألمانيا وإسبانيا لا تقارن بالحال في فرنسا، من حيث القوة والتعبئة والتلاحم مع القاعدة الاجتماعية.
بموازاة ذلك بدأ التصويت اليساري على الانتخابات التمهيدية الشعبية، وهي استفتاء المواطنين الذي سُجل فيه ما يقرب من 467000 شخص، يوم الخميس الماضي وذلك للخروج بمرشح يساري موحد لتعيين المرشح في الانتخابات الرئاسية، من بين سبع شخصيات يسارية، رفض العديد منهم الدخول في التصويت كمقدمة للاعتراف بنتيجة هذه الاستشارة الشعبية الواسعة للقواعد الانتخابية اليسارية بكل فصائلها البيئية والاشتراكية والشيوعية.
ويبدو أن وزيرة العدل السابقة في خلال ولاية فرنسوا هولاند، كريستيان توبيرا، هي المفضلة في هذا الاقتراع الذي وعدت بالامتثال له، على عكس منافسيها الثلاثة الرئيسيين، زعيم أقصى اليسار جان لوك ميلانشون، والزعيم البيئي يانيك جادوت والاشتراكية آن هيدالغو، الذين طالبوا بسحب أسمائهم.
وإضافة إلى هؤلاء المرشحين الأربعة، سيختار الناخبون أيضاً بين عضو البرلمان الأوروبي بيير لاروتورو وشخصيتين من المجتمع المدني، هما شارلوت مارشانديس وآنا أجويب بورتيري، تم اختيارهما مسبقاً مثل الآخرين خلال المرحلة الأولى من التصويت الشعبي الإلكتروني في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو أين ذلك الزخم الشعبي والانتخابي الذي كان يحظى به اليسار الفرنسي قبل عشر سنوات عندما صعد هولاند إلى السلطة وهزم نيكولا ساركوزي؟ وكيف تفككت تلك القاعدة الانتخابية خلال هذه المدة على رغم من فشل ماكرون في تحقيق مطالب قطاع واسع من الطبقات الوسطى والشعبية خلال عهدته الأولى، والتي من المفروض أن تتجه يساراً؟
في ورقة قدمها الرئيس التنفيذي لـ”مؤسسة جان جوراس للأبحاث” الاشتراكية جيل فينشلشتاين، بالتعاون مع مؤسسة “إيبسوس” لاستطلاعات الرأي، يحاول فينشلشتاين تتبع القاعدة الانتخابية التي حققت النصر لليسار في العام 2012 وتحولاتها خلال عشر سنوات باحثاً عن المسارات التي تشتتت فيها هذه الكتلة الناخبة وأفق تصويتها خلال الاستحقاق الانتخابي المقبل.
قبل عشر سنوات، ألقى فرنسوا هولاند “خطاب لو بورجيه”، وخلق زخماً من شأنه أن يدفعه إلى نسبة 28.5 في المئة في الجولة الأولى. ومن خلال قاعدة بيانات اللجنة الانتخابية لهولاند، يمكن تتبع مسار المواطنين نفسه بمرور الوقت، وذلك يسمح لنا بمعرفة مصير هؤلاء الناخبين. كيف يصوتون اليوم؟ كيف يضعون أنفسهم إيديولوجياً؟ ما هي الأحزاب التي يشعرون أنها قريبة سياسياً منهم؟ الجواب عن هذه الأسئلة حاسم.
بالنسبة إلى إيمانويل ماكرون، 46 في المئة من ناخبي هولاند في عام 2012 صوتوا لمصلحته في عام 2017 ما يشكل قلب قاعدته الانتخابية لليسار إذا كان يأمل في استعادة السلطة. ويشير فينشلشتاين إلى أنه إذا اتبعنا المسار الذي سلكه هؤلاء الناخبون بين 2012-2022، فيمكننا أن نرصد تحولات في المشهد السياسي. التحول الأول هو التجزئة، حيث انقسمت قاعدة اليسار الانتخابية بعد هولاند، في الغالب بين اثنين من المرشحين – إيمانويل ماكرون وجان لوك ميلانشون – في عام 2017. أما اليوم، فهي متناثرة بين ثمانية مرشحين يجمع كل منهم ما لا يقل عن 4 في المئة من الأصوات.
أما التحوّل الثاني، فهو التقلب. في السابق، كانت المسارات الانتخابية مستقيمة، باستثناء حالات محددة. خلال هذا العقد، كان الأمر عكس ذلك تماماً. نادراً ما صوتت قواعد اليسار للحزب نفسه في كل انتخابات.
أما المؤشر الثالث، فهو الثبات الإيديولوجي، فقد وضعت هذه القاعدة الانتخابية نفسها بشكل كبير على اليسار في عام 2012 ولا يزال 73 في المئة يفعلون ذلك في عام 2015. وفي عام 2017، كانوا لا يزالون 65 في المئة. اليوم هم 58 في المئة فقط.
لكن الورقة تخلص إلى أن الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون – وهو وزير سابق في إدارة الرئيس هولاند – يُعتبر الأكثر استفادة حتى الآن من قاعدة هولاند حيث لا يزال يحظى بتأييد 36 في المئة منها. ورغم تراجع بمقدار 10 نقاط مقارنة بعام 2017، لكنه يتفوق إلى حد بعيد على جميع المرشحين الآخرين – فضلاً عن أن الفرنسيين بشكل عام والناخبين اليساريين بشكل خاص يضعونه في موقع يميني أكثر بكثير مما كان عليه قبل خمس سنوات.
ولكن ذلك لا يبدو مهماً لقطاع واسع من اليسار في ظل صعود غير مسبوق لليمين المتطرف، وهذه الخشية يمكن أن تدفع كتلةً مهمةً من اليسار خصوصاً المهاجرين والأقليات الثقافية والعرقية والدينية إلى التصويت بكثافة للرئيس ماكرون، ذلك أنه يبدو في مواجهة إيريك زمور ومارين لوبان، أهون الشرور.