بقلم: عبد الاله بلقزيز – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- لم ينته العداء المتبادل الغربيّ- الرّوسي بنهاية الحرب الباردة وسقوط النّظام الشّيوعيّ في روسيا والجمهوريّات السوفييتيّة (سابقاً) ودول شرق أوروبا، وانفراط حلف وارسو. استمرّ العداء على إيقاعه المعتاد، وثَبَتَ أنّ سببه الرّئيس ليس شيوعيّة النّظام الرّوسيّ وخشية الرّأسماليّات الغربيّة على نفسها منه، بل لم يتعدَّ دور هذا العامل سوى أنّه رَكِبَ على عداءٍ سابق وعزّز مبرّراته. واليوم، يتبيّن إلى أيّ حدٍّ أن روسيا ما زالت تمثّل هاجساً دوليّاً رئيساً لدول منظومة حلف شمال الأطلسيّ، وإلى أيّ حدٍّ السّعيُ الغربيّ ما زال حثيثاً إلى المزيد من إضعافها وعزلها ومحاصرتها في حدودها.
لم يشفع لروسيا كلّ الذي حدث لها بعد العام 1991؛ انهيارُ كيانها الاتّحاديّ الإمبراطوريّ (الاتّحاد السّوفييتيّ) وانكفاؤُها إلى داخلها القوميّ الرّوسيّ (الذي هوجِم، بدوره، بمشروع الانفصال في الشّيشان)؛ ولم يشفع لها أنّ معسكرها الكبير في شرق أوروبا ومنظومته: الكوميكون – انفرط وفقدت بانفراطه حليفاً إقليميّاً وعمقاً استراتيجيّاً؛ ولا شفع لها أنّ التّهديد النّوويّ زال عن أوروبا الغربيّة بعد سحب رؤوسها النّووية المنشورة في شرق ألمانيا؛ ولم يشفع لها أنّ البلدان الحليفة لها – سابقاً – في أوروبا الشرقيّة باتت – بعد تغيير أنظمتها السّياسية وصعود نخبٍ ليبراليّة جديدة – جزءاً من المنظومة الأطلسيّة الزّاحفة شرقاً، ودولاً ذات عضويّة في “الاتّحاد الأوروبيّ”. كلّ ذلك لم يشفع لها لتغيير النّظرة إليها كدولة!
والحقّ أنّه حتّى صيرورة روسيا بلداً رأسماليّاً، بعد انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ، لم تشفع لها لتحظى بمعاملةٍ طبيعيّة غير عدائيّة من الولايات المتّحدة وبلدان أوروبا، في وقتٍ كانت فيه قوى ليبراليّة داخلها متطلّعة إلى اندماج روسيا في المنظومة الاقتصاديّة الأوروبيّة. وحين كانت روسيا في ذروة اندفاعة اللّيبراليّة المتوحّشة فيها – على عهد بوريس يلتسين التي عاثت فساداً ونهباً فيها- تترنّح تحت وطأة انهيارها الاقتصاديّ والماليّ، لم تسارع دولُ الغرب إلى إنقاذها من السّقوط، بل تركتها تتآكل من الدّاخل وتُسْتَنْزف في معركة إخماد حركات الانفصال فيها فتتهاوى، كأنّها تمارِس ضدّها انتقاماً تاريخيّاً وتصفيةَ حساب استراتيجيّة! وما إن وَصَل بوتين إلى السّلطة وأطلق مشروعه لإعادة بناء روسيا المنهارة، في مطلع القرن الجديد، حتّى اشتدّت وطأة العداء لها والتّحريض ضدّها في الغرب.
منذ وصول بوتين إلى السّلطة، وبعده ميدفيديف، ثمّ عودة بوتين إلى الحكم وروسيا عرضة لمسلسلٍ متلاحق الحلقات من الضّغوط الغربيّة، السّياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة. لم تكن هي إلاّ سنوات قليلة على اجتثات أمريكا آخر حليفٍ لروسيا في أوروبا (نظام ميلوسوفيتش في صربيا)، حتّى تواترت الضّغوط: هجوم سياسيّ معاكس على الجوار المباشر لروسيا من طريق رعاية “ثورات” مدنيّة في أوكرانيا وجورجيا وإيصال نخب سياسيّة موالية للغرب إلى السّلطة فيها؛ عقوبات اقتصاديّة خانقة من “الاتّحاد الأوروبيّ” بإيعازٍ أمريكيّ تنضاف إلى العقوبات الأمريكيّة المطبّقة منذ عهد “المحافظين الجدد”، والمتزايدة مع كلّ عهد؛ تطويق روسيا بمنظومة الأطلسيّ ومحاولة مدّ هذه المنظومة إلى حدودها من طريق الإفصاح عن النّيّة في ضمّ أوكرانيا إليها؛ هذا فضلاً عن الحرب الاقتصاديّة- العلميّة على نجاعات اللَّقاحات الرّوسيّة لمكافحة وباء كورونا، وعن محاولات الغرب “دقّ إسفين” بين روسيا والصّين، ومحاولات التّضييق على النّفوذ الرّوسيّ في منطقة غرب آسيا، معطوفةً على حربٍ إعلاميّة مكثّفة لشيطنة موسكو ونسبة شرور العالم جميعها إلى سياساتها، وإلقاء مسؤوليّة الكثير من أزمات العالم عليها.
من جهتها، بادلتْ روسيا العَداء بالعَداء، والتّصعيد بالتّصعيد وأبْدت من الحزم في الرّدّ ما تغيّت به إبلاغَ رسالة إلى الغرب بأنّها جاهزة لكلّ الخيارات؛ فإلى أنّها طوّرت – في السّنوات الاثنتي عشرة الأخيرة – منظومتَها الدّفاعيّة بشكلٍ نوعيّ، لمعادلة قدرات الأطلسيّ، جرّبت هجوماً سياسيّاً معاكساً على النّظام الانتخابيّ الأمريكيّ (على ما اتّهمتها الولايات المتّحدة بذلك) وأنظمة المعلومات الغربيّة؛ وخطت أبعد في الرّدّ على التَّحرّشات السّياسيّة الأمريكيّة بضمّ شبه جزيرة القرْم إليها، وبدعم شرق أوكرانيا الموالي لها. وها هي، اليوم، تلوّح – من خلال الحشود العسكريّة على الحدود مع أوكرانيا – بالنّيّة في غزوها لقطع الطّريق على مشروع ضمّها إلى منظومة الأطلسيّ.
لن يقود هذا العداء المتبادَل الغربَ وروسيا إلاّ إلى المزيد من التّصعيد والتّوتّر، وإفساد مناخ العلاقات الدّوليّة وبالتّالي، بعْث الرّوح من جديدٍ في الحرب الباردة والاستقطاب الدّوليّ. لكنّ الذي قد لا يعرفه الغرب، ربّما، هو أنّ حشْرَهُ روسيا في الزّاوية الضيّقة سيقودها إلى المزيد من التّحالف مع الصّين والهند ودولٍ من الجنوب على غيرِ توافُقٍ مع السّياسات الأمريكيّة والأوروبيّة. وقد ينتهي الأمر بها، في المستقبل، إلى تكوين منظومة عسكريّة جديدة مع الصّين، وربّما الهند، أي في نطاق ما سمّاه يفغيني بريماكوف قبل ربع قرن بالمثلَّث الاستراتيجيّ.