بقلم: د. محمد السعيد إدريس – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – أهم ما يميز الصراع الدائر الآن حول أوكرانيا بين روسيا والغرب (الأمريكي الأوروبي) أنه صراع مكشوف يشبه كثيراً لوحة «الشطرنج» التي يجيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لعبها. كل الأوراق مكشوفة والطرفان يتعاملان على هذا الأساس، وربما يكون ذلك هو سبب التعقيد والصعوبة في إدارة الأزمة والحيلولة دون اندفاعها نحو «حافة الهاوية» في زمن أضحت فيه حرب روسيّة – أمريكية كارثة ليس فى مقدور العالم كله أن يتحملها. فعندما تدرك الأطراف المتصارعة أن «الحرب» أضحت خياراً أساسياً، تكون الجهود كلها مركزة حول: كيفية منع تفجر تلك الحرب؟
هذا هو السؤال الجوهري بعد فشل ثلاثة لقاءات متتالية شهدها في جنيف أولاً بين الروس والأمريكيين، ثم في بروكسل بين روسيا وأعضاء حلف شمال الأطلسي حيث مقر الحلف، والثالثة في فيينا ضمن معادلة الأمن والتعاون الأوروبي. الجولات الثلاث فشلت بالكامل باعتراف كل الأطراف في إيجاد حل للأزمة، وجاء الاجتماع الرابع لوزراء خارجية ودفاع الاتحاد الأوروبي في مدينة «بريست» الفرنسية ليفاقم الإخفاق، حيث أكد وجود انقسام في مواقف الأوروبيين من روسيا والأزمة حول أوكرانيا بين معتدل (ألمانيا وفرنسا) وبين متشدد (دول شرق أوروبا الحليفة السابقة لموسكو وخاصة بولندا). والذي نعنيه بالاعتدال والتشدد يتعلق بالموقف الذي يجب اتخاذه من روسيا في حال أقدمت على غزو أوكرانيا على نحو ما يروّج الانقسام إلى أمريكيين وأوروبيين، الأمر الذي ينفيه الروس بشدة.
تعرف كل الأطراف أن أوكرانيا ليست هي القضية لا بالنسبة للأمريكيين والأوروبيين ولا بالنسبة لروسيا. أوكرانيا هي فقط «العقدة الكبرى» في مجرى الصراع، بحيث سيكون ممكناً الحديث عن مرحلة ما قبل أوكرانيا وما بعد أوكرانيا. وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن كان صريحاً في كشف الأوراق قبل ساعات من بدء جلسة المحادثات الأمريكية – الروسية في جنيف، فقد أعلن (9-1-2022) أن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين «يهدف لاستعادة الاتحاد السوفييتي القديم». لم يكتف بلينكن بذلك بل اعتبره «المستحيل» عندما قال «هذه وصفة لعدم الاستقرار والصراع، وسبق أن أدت إلى حربين عالميتين في السابق».
الأمريكيون بهذا الفهم على قناعة تامة بأن مطالب روسيا الخاصة بتسوية الأزمة المتفجرة بين روسيا وأوكرانيا هي «إعادة أوكرانيا مجدداً إلى الفلك الروسي» بمنعها من أن تتحول إلى عضو في حلف شمال الأطلسي على نحو ما حدث بحال دول شرق ووسط أوروبا الأعضاء السابقين في حلف وارسو الذين أصبحوا بعد تفكك هذا الحلف أعضاء في الحلف المعادي السابق، أي حلف شمال الأطلسي (الناتو) ولم يبق من هذه الدول غيرها وجورجيا وبيلاروسيا (روسيا البيضاء).
يدرك الأمريكيون وفق فهمهم الخاص بإدارة الصراع مع كل من الصين وروسيا على الزعامة العالمية وعلى هيكلية النظام العالمي، هل هيكلية أحادية القطبية، كما تريدها واشنطن، أم هيكلية متعددة الأقطاب كما تريدها موسكو وبكين؟ ولذلك يرى الأمريكيون أن التصعيد الروسي ضد أوكرانيا، ليس هدفه فقط منع أوكرانيا من الحصول على عضوية الحلف الأطلسي، كما يقول الروس ولكن هدفه هو «إعادة تسوية ما بعد الحرب الباردة، بما يمنع الأمريكيين وحلف الأطلسي من الإحاطة الجيوسياسية بالدولة الروسية، وتحقيق توازن قوى جديد في القارة الأوروبية تستعيد موسكو فيه قوتها ومكانتها، كمقدمة وكضرورة، من وجهة النظر الروسية لتأسيس نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب تشارك فيه روسيا والصين مع الولايات المتحدة الأمريكية.
على الجانب الآخر الروسي، يرى الروس في الوجود الأمريكي – الأوروبي القوي في أوكرانيا من خلال التسليح والدعم الاقتصادي خطوة لضم أوكرانيا إلى حلف الأطلسي ومن ثم اقتراب الحلف من الحدود الروسية مباشرة، ومحاصرة روسيا داخل حدودها، كخطوة لتفجير روسيا من الداخل عبر«ثورة ملونة» على غرار ما حدث في دول شرق ووسط أوروبا، ما يعني أن روسيا هي الهدف الأساسي من إصرار الأمريكيين والأوروبيين على التصدي لها في أوكرانيا، والتعامل مع أوكرانيا باعتبارها طرفاً محورياً في الأمن الأوروبي.
بهذا الفهم ترفض روسيا بالمطلق، حصول أوكرانيا على عضوية حلف شمال الأطلسي، وتطالب بوقف الانتشار العسكري للحلف في وسط وشرق أوروبا، ورداً على ذلك رفضت الولايات المتحدة طلب موسكو استناداً على أن حلف شمال الأطلسي هو المخوّل بأخذ القرارات المتعلقة بالعضوية، وأن عضوية الحلف مفتوحة لأية دولة مؤهلة. وإذا كانت لا توجد رغبة في توسيع الحلف في المستقبل القريب وضم أوكرانيا إليه، فإن طلب موسكو حظر أي نشاط عسكري في أوروبا الشرقية تجاوزاً من قبل الروس.
دخلت الأطراف كلها جلسات محادثات جنيف وبروكسل وفيينا بهذه الخلفيات وفشلت تماماً في التوصل إلى حل، ما أدى إلى فرض حالة «حافة الهاوية» كأمر واقع يعجز الجميع عن تجاوزه، والكل يسأل: هل من مخرج؟ هل الفشل في جنيف وبروكسل وفيينا هو نهاية للمسار الدبلوماسي وأن الحرب باتت هي الحل؟
ليس هناك لا في موسكو ولا في واشنطن من يجرؤ على الإجابة ب«نعم» على هذا السؤال، رغم ذلك يبقي الدرس الذي أرساه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كازاخستان بالتدخل العسكري السريع «لمنع حدوث ثورة ملونة» في هذه الدولة الحليفة درساً ماثلاً في الأذهان لقراءة ما يمكن أن يقدم عليه بوتين للدفاع عن ما يعتبره خطوطاً حمراء للأمن القومي الروسي.