الشرق اليوم- مع ارتفاع التصعيد بين روسيا ودول الغرب بشأن احتمال اجتياح أوكرانيا، ووسط التلويح بفرض عقوبات قاسية في حال اتخذت موسكو خطوة ضد كييف، يزداد القلق بشأن استغلال الطاقة سلاحا في المواجهات المقبلة.
وتبحث إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، عن حلول لتأمين قطاع الطاقة لحلفاء الولايات المتحدة في حال اتخذت روسيا قرار تسليح إمدادات الطاقة للدول الأوروبية.
وقال مسؤول في البيت الأبيض، رفض الكشف عن اسمه في حديث لصحفيين، الثلاثاء: إن “الولايات المتحدة تعمل مع شركات في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا لضمان حصول أوروبا على الغاز الطبيعي في حال قطعت روسيا إمداداتها”، وفقا لما نقلته شبكة “سي أن بي سي” الأمريكية.
وتطرّق المسؤول الأمريكي إلى المخاوف السائدة في أوروبا من أن تردّ روسيا على أيّ عقوبات عبر تقليص صادراتها من الطاقة إلى القارة العجوز التي تعتمد عليها بشدة، بالقول إن موسكو ستؤذي نفسها أيضاً في حال أقدمت على خطوة من هذا القبيل.
وقال: “نجري مناقشات مع كبار منتجي الغاز الطبيعي في جميع أنحاء العالم ، للوقوف على قدراتهم واستعدادهم لزيادة إمدادات الغاز الطبيعي مؤقتا وتخصيص هذه الكميات للمشترين الأوروبيين”.
وأشار إلى أن الإدارة عملت على “تخصيص كميات إضافية من الغاز الطبيعي غير الروسي من مناطق مختلفة من العالم من شمال أفريقيا والشرق الأوسط إلى آسيا والولايات المتحدة” ، مضيفًا أن مخزونات الطاقة الأوروبية أقل بكثير بسبب خفض الإمدادات الروسية خلال الأشهر القليلة الماضية.
وأكد “نحن على استعداد لفرض عقوبات تحمل تداعيات هائلة” تتجاوز الإجراءات السابقة التي طُبّقت عام 2014، بعدما اجتاحت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية.
وأضاف: “ولّى زمن الإجراءات التدريجية”، مؤكداً أنّه في حال أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا مجدداً “فسنبدأ من أعلى سلّم التصعيد”.
وأشار المسؤول الأمريكي إلى أن الاقتصاد الروسي “له بعد واحد، وهذا يعني أنها (روسيا) بحاجة إلى عائدات النفط والغاز بقدر ما تحتاج أوروبا إلى إمدادات الطاقة الخاصة بها”، مضيفا أن الإيرادات من صادرات النفط والغاز تشكل حوالي نصف الميزانية الفيدرالية لروسيا.
وشدد على أن هذه ليست ميزة غير متكافئة بالنسبة للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مضيفا “إنه نوع من الاعتماد المتبادل”.
الاقتصاد الروسي.. هل يتحمل “الضربة”؟
وأبدت “شبكة مشغلي أنظمة النقل الأوروبية” (ENTSOG)، العام الماضي، تفاؤلا في تقييمها الذي ينشر كل أربع سنوات، والذي يعكس كيفية التعامل مع سيناريوهات الكوارث وانعدام مصادر الطاقة.
وأجرت الشبكة اختبارا لحوالي 20 سيناريو لكوارث محتملة قد تؤثر على قطاع الطاقة واستنتجت أن “البنى التحتية الأوروبية للغاز تملك المرونة الفعالة لصالح أعضاء الاتحاد الأوروبي .. للحرص على أمان إمدادات الغاز”، لكن المشكلة هنا أن هذا التحليل لم يشمل سيناريو حرب مع روسيا، وفقا لما ذكره تحليل لصحيفة “ذا إيكونوميست”.
ولم يكن متوقعا في السابق أن تقوم روسيا بقطع كافة الإمدادات الأوروبية التي تشكل ثلث الغاز المحروق في القارة العجوز.
ويقول ثاين غوستافسون، مؤلف كتاب “Kimat”، بشأن الطاقة الروسية، إنه، وحتى في ذروة الحرب الباردة لم يكن إغلاق إمدادات الغاز خيارا أمام الاتحاد السوفيتي، مضيفا أنه خلال أزمة الغاز بين أوكرانيا وروسيا، عام 2009، علق ضخ الغاز إلى الدولة، لكن ذلك كان لوقت قصير فقط.
ويشير تحليل “ذا إيكونوميست” إلى أن بوتين “يحضّر كارثة لجارة روسيا (أوكرانيا) ولنفسه”.
ويقول غوستافسون إن سيناريو قطع إمدادات الغاز بسبب الأزمة الأوكرانية لم يعد بعيدا عن التصور، مشيرا إلى أنه، ومقارنة بالسوفييت الذين سبقوه، فإن بوتين يمكنه تحمل “صدمة قصيرة في قطاع الطاقة”.
وحلل الخبير في مجال استخبارات الطاقة، جيمي كونشا، الخسائر التي يمكن أن تطال شركة “غازبروم” الروسية في حال قطع الإمدادات، وذلك دون حساب أي عقوبات مترتبة على خرق العقود، ووفق معدل الأسعار اليومية التي شهدها الربع الأخير من عام 2021.
ويقول كونش إن خسائر “غازبروم” المملوكة للدولة الروسية، ستتراوح ما بين 203 و228 مليون دولار يوميا. وأن استمر قرار قطع الغاز المفترض لثلاثة أشهر مثلا، حيث سيقل حجم الطلب على الغاز بمقدار 60 في المئة مقارنة بيناير، وبالتالي فإن بوتين سيفقد اليد العليا، وستبلغ حجم الخسائر الكلية 20 مليارا.
وتشير الصحيفة إلى أن هذا المبلغ كان سيصبح مدمرا للاقتصاد السوفييتي الذي كان يعتمد أساسا على العملة الصعبة التي أتت من مبيعات الغاز للغرب، لكن الاقتصاد الروسي اليوم يملك 600 مليار دولار في احتياطي البنك المركزي، و”الذي سيتيح بسهولة امتصاص صدمة كتلك”.
وتضيف “ذا إيكونوميست” إلى أن روسيا قد تحظى بالأفضلية ماديا، على الأقل لوقت قصير، فأسعار الغاز والنفط بدأت ترتفع بنحو حاد، ومن دون وقوع حرب، يرجح بنك “جي بي مورغان تشيس” أن تساهم هذه الأسعار بزيادة إيرادات “غازبروم” لتبلغ 90 مليارا من الأرباح الصافية هذا العام، مقارنة بـ 20 مليارا خلال عام 2019.
“سيناريو الكابوس”
لكن إن قامت روسيا بإشهار سلاح الطاقة، كيف يمكن أن يؤثر ذلك على الغرب؟ تقول الصحيفة إن كان الأمر مقتصرا على أوكرانيا وحدها، كما حصل عام 2009، فإن أوروبا ستدبر أمورها.
وقد بدأت “غازبروم” أصلا بتخفيض حجم إمدادات الغاز لأوكرانيا، وتشير إحصائيات بنك “سيتيغروب” إن الشركة قلصت حجم الإمداد للنصف خلال العام الماضي، وربعه عام 2019.
وتعد هذه أول صدمة لقطاع الطاقة النفطية منذ دخول العالم “المرحلة الخضراء”، على حد تعبير “ذا إيكونوميست”، متوقعة ما قد يحصل إن تحقق “سيناريو الكابوس” بأن يقطع بوتين الغاز عن أوروبا بأكملها.
وتتوقع الصحيفة أن تشهد أوروبا بعض الاضطراب المباشر، ورجح الأستاذ من جامعة سان دييغو بكاليفورنيا، ديفيد فيكتور أن تشعر سلوفاكيا والنمسا وأجزاء من إيطاليا تلك “الضربة” بشكل حاد.
أما بالنسبة للدول الأوروبية الكبرى، تعد ألمانيا “الأكثر هشاشة”، يقول فيكتور، حيث عمدت الدولة على الاعتماد على الطاقة المناخية للتقليل من مصادر الطاقة الأحفورية، وفي ضوء كارثة “فوكوشيما” باليابان، “سارعت (ألمانيا) باتخاذ القرار وإغلاق محطاتها النووية”، ما جعلها تعتمد على الغاز بشكل لا داع له.
كما تعد ألمانيا أكبر مستهلك للغاز في أوروبا، وتعتمد عليه في ربع استهلاكها للطاقة، وتشكل الإمدادات الروسية نصف وارداتها من الغاز.
“نبأ سار”
وبينما يسعى الدبلوماسيون الأوروبيون والأميركيون جاهدين لتأمين زيادة إنتاج الغاز الطبيعي المسال لشحنه إلى أوروبا من شركات الطاقة الكبرى في أميركا وقطر، لكن هذا في الغالب “مسرحية سياسية”، وفقا للصحيفة.
ويقول، مايكل ستوبارد، من مركز “IHS Markit”، للأبحاث إن هناك القليل من الطاقة الإنتاجية الفائضة خارج روسيا وأن “إمداد الاستجابة السريعة” المتاح في الولايات المتحدة لا يمكن أن يساعد أوروبا كثيرا لأن “مرافق التصدير تعمل بكامل طاقتها بالفعل”.
لكن “النبأ السار” هو أن نظام الطاقة في أوروبا أصبح أكثر مرونة مما كان عليه خلال أزمة 2009.
ويشير أندرياس جولدثاو، من جامعة إرفورت الألمانية في بوتسدام للصحيفة إلى أن تلك الفترة شهدت بعض التغييرات المفيدة، إذ أدت الإجراءات المؤيدة للمنافسة (مثل حظر “بنود الوجهة” التي تمنع إعادة بيع الغاز) إلى إضعاف قبضة شركة “غازبروم”، وأصبحت شبكة كثيفة من وصلات الغاز تربط الآن البلدان التي كانت معزولة سابقا.
مصدر آخر “للبهجة” هو الغاز الطبيعي المسال، تقول الصحيفة إن الاستثمارات الضخمة في مرافق إعادة تحويل الغاز في جميع أنحاء أوروبا تعني أن المنطقة لديها الكثير من القدرات الخاملة.
ويقدر بنك “سيتي غروب” أنه مع تاريخ معدل استخدام تلك المرافق، التي تعمل بنسبة 50 في المئة من السعة أو أقل، يمكن للمنطقة من الناحية النظرية على الأقل، أن توفر ما يكفي لاستبدال قرابة ثلثي واردات الغاز عبر الأنابيب الروسية.
ويشير إلى أن العامل المحدد ليس بقدرة إعادة تحويل الغاز إلى غاز مسال، بل بالعرض المتاح للغاز الطبيعي المسال. وذلك لأن توسيع قدرة الإنتاج والتصدير الجديدة قد يستغرق وقتا طويلا.
لذا، تقول الصحيفة، إن أفضل أمل لأوروبا حاليا هو الحصول على شحنات الغاز الطبيعي المسال الحالية الموجهة أصلاً إلى أماكن أخرى.
وخلال أزمة الطاقة الأخيرة، لاحظ أحد المستثمرين أنه عندما ارتفعت الأسعار الأوروبية بمقدار ثلاثة أضعاف بين أكتوبر وديسمبر من العام الماضي، أبحر “أسطول من الغاز الطبيعي المسال” إلى أوروبا حيث تم تحويل الشحنات من آسيا، مما عوض عن انخفاض واردات الغاز الروسي.
وتذكر الصحيفة أن هناك مصدرا آخر قد يدعم “الصمود الأوروبي”، وهو كمية الغاز المخزنة. فقد أدى الشتاء القارس العام الماضي، إلى جانب إحجام شركة “غازبروم” عن ملء وحدات التخزين التي تسيطر عليها في أوروبا، إلى ترك تخزين الغاز عند مستويات أقل من المعتاد لمدة خمس سنوات.
ومع ذلك ، تحسب شركة أبحاث الطاقة “Rystad” أن استمرار الطقس الطبيعي هذا الشتاء من شأنه أن يترك كمية كافية من الغاز للتخزين بحلول الربيع لتعويض شهرين من فقدان صادرات الغاز الروسي، ويعتقد بعض المحللين أن الزيادة قد تغطي أربعة أشهر من التوقف، على الرغم من أن موجة البرد ستقلل من هذا المخزون بسرعة.
وتمتلك أوروبا أيضًا “سلاحًا سريًا”، وفقا لماسيمو دي أودواردو من شركة “Wood Mackenzie”، الاستشارية، مضيفا أن أوروبا تحتفظ في كهوف الملح وخزانات المياه الجوفية بكمية هائلة من الغاز الذي لا يتوفر عادة لطرحه في السوق لأسباب فنية وأسباب تتعلق بالسلامة.
ويرى محللو الشركة أنه يمكن استخدام ما يصل إلى عُشر هذا المخزون دون مشاكل، إذا منح المشرعون الإذن بذلك، كما قد يحدث في أزمة ناجمة عن الحرب، فسيكون ذلك بمثابة ما يزيد عن شهر من الواردات الروسية.
“روسيا ستدفع الثمن الأكبر”
وباختصار، ستعاني أوروبا إذا قطعت روسيا الغاز، ويتوقع جوناثان إلكيند، من جامعة كولومبيا، أن هذه التكلفة ستتفاقم، لأن “أوروبا لن تبدأ (مواجهة ذلك) من الهدوء، ولكن من سوق على حافة الهاوية”.
فقد مرت أسواق الطاقة في القارة للتو بصدمة أسعار في أوائل الشتاء، وكانت توقعات أسعار جميع سلع الطاقة “قبيحة”، وفقا للصحيفة.
ويتوقع بنك “جي بي مورجان تشيس” أنه حتى من دون قطع الغاز الروسي، ستنفق أوروبا حوالي تريليون دولار على الطاقة هذا العام، ارتفاعا من 500 مليار دولار في عام 2019.
وإذا اضطرت المنطقة إلى استهلاك مخزون الغاز لديها للبقاء على قيد الحياة مع انقطاع روسي، سيكون عليها بعد ذلك أن تنفق المزيد خلال الصيف على إعادة بناء احتياطياتها بشكل محموم لتجنب أزمة الطاقة في الشتاء المقبل.
هذا احتمال غير سار، تقول الصحيفة، لكن روسيا ستدفع “ثمناً أكبر على المدى الطويل”. وتنقل عن أحد مصادر الصناعة أن “غازبروم” ستواجه على الأرجح تداعيات تجارية “ضخمة” ، تتراوح من الغرامات المستحقة للعملاء، إلى وقف تدفق الدولارات إلى روسيا مقابل مدفوعات العقود.
وستجد شركة “غازبروم” صعوبة في تأمين أي عقود طويلة الأجل في أوروبا بعد هذا البرهان الصارخ لانعدام مصداقيتها.
وتضيف أنه “من المؤكد أن خط أنابيب نورد ستريم 2 الذي يعتز به بوتين سوف يعتليه الغبار. وقد يؤدي الإغلاق إلى إقناع الصين، التي تستورد الآن بحذر المزيد من الغاز الروسي، بأن مخاوفها طويلة الأمد بشأن المصداقية الروسية لها ما يبررها”.
ويجادل فيكتور بأن مثل هذا “الاستخدام الوقح لسلاح الطاقة” من شأنه أن يدفع أوروبا على الأرجح إلى بذل جهد أكبر بكثير لخفض اعتمادها على الصادرات الروسية من الغاز، وبشكل “أقل لأنها غير آمنة وأكثر لأن الإيرادات … هي ما يمول السلوك الروسي السيئ”. يقول غوستافسون: “إذا أراد بوتين تدمير أعمال ‘غازبروم’ في أوروبا ، فلن يتمكن من القيام بذلك بطريقة أفضل”.
المصدر: الحرة