بقلم: د. حسن أبو طالب – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – التحذيرات الأميركية والأوروبية لروسيا لا تتوقف، بل تزداد حدة وخشونة. ظاهرها تحذير موسكو من الإقدام على أي عمل عسكري، وجوهرها دفع الروس إلى مغامرة لا يمكن السيطرة على نهاياتها. مواقف «الناتو» تتسم بتحدي اعتبارات أمن روسيا، والمطالب التي قدمتها موسكو لإعادة هيكلة الأمن الأوروبي رُفضت قبل أن يُنظر فيها. الحديث عن تسوية سياسية يتلاشى، والأسلحة الغربية والأميركية تحديداً والمدربون العسكريون البريطانيون يتدفقون على أوكرانيا لمساعدتها على مواجهة أي غزو روسي يبدو وشيكاً من وجهة نظر «الناتو» والولايات المتحدة.
النفي الروسي بعدم النية لغزو أوكرانيا لا يجد أذناً صاغية لدى «الناتو» أو واشنطن. أوكرانيا ذاتها تبدو متأهبة لحرب وكأنها نزهة، رغم الفارق الكبير في القوات والمعدات ونظم الأسلحة مع روسيا، التي تملك ثاني أقوى جيش في العالم بعد الولايات المتحدة. الوضع الداخلي الأوكراني مليء بالثغرات والاختراقات، سواء من حيث عدم كفاءة الحكم، ومستوى الفساد العالي حسب التقارير الدولية، وانقسام المجتمع بين مؤيد لعلاقات قوية مع روسيا وآخر كاره لها ويراهن على حماية أميركية أوروبية. فضلاً عن وجود أقلية روسية تدعم العودة إلى أحضان موسكو. ما يجري في إقليم دونباس هو حرب أهلية تقيد أي قوة محلية من مواجهة حرب كبيرة مع خصم مدجج بالأسلحة الحديثة والعدد الكبير من الجنود والآليات.
المبررات التي يطرحها الناتو حول الحق في التوسع والامتداد إلى أي بقعة يريد مصحوبة بالحق السيادي لأوكرانيا وجورجيا وغيرهما في الالتحاق بـ«الناتو»، مليئة بالثغرات الفكرية والقانونية والتاريخية، ومع ذلك، فهي العناصر الكبرى التي يدور حولها الخطابان الأميركي والأوروبي. فالحق السيادي لا يعني بالضرورة أن تضع مصير أمة بأكملها على شفا جرف من النار، كما أن الدعم الغربي بما في ذلك دعم «الناتو» المنتظر، وهو المنظمة العسكرية بالأساس، المنتظر لن يتجاوز توقيع عقوبات مشددة وتزويد بأسلحة ذات طابع تكتيكي دفاعي وليست أسلحة استراتيجية يمكنها تتغير قواعد اللعبة كلية. والسؤال، ماذا ستفيد العقوبات على روسيا إن احتلت جزءاً من الأرض أو أطاحت البنية الأساسية أو أنهت عمر النظام؟
روسيا الآن في ظل الرئيس بوتين ليست روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، عسكرياً على الأقل مصحوبة بتحركات دولية في أكثر من بقعة عالمية ودولية تسعى إلى تثبيت مكانتها كقوة أساسية على قمة النظام الدولي، مع الولايات المتحدة والصين وأي قوة أخرى صاعدة. الوضع الاقتصادي الروسي لا يقارن بوضع الغرب إجمالاً. لكنه أفضل كثيراً من وضع اقتصاد الاتحاد السوفياتي السابق الذي فارق الحياة نهاية الثمانينات في القرن الماضي؛ إذ لا يخضع لأي ديون خارجية، لديه موارد كبيرة من الغاز والنفط والقمح والكهرباء وبنية أساسية في الاتصالات متطورة، وصناعات ثقيلة كالقطارات ومصانع الألمونيوم والحديد، موازنته متحفظة ولكنها متوازنة، يراها خبراء اقتصاديون أميركيون قادرة على تحمل العقوبات الغربية أو الجزء الأكبر منها. وأي عقوبات على صناعة النفط والغاز الروسي سوف يتضرر منها الأوروبيون الذين يعتمدون على ما يقرب من 35 في المائة من الغاز على الواردات الروسية، والمفارقة أنها تعبر أوكرانيا. وفي حالة أي حرب وتوقيع عقوبات غربية سيدفع الأوروبيون ثمناً كبيراً لهذه العقوبات، لا يقل عن الثمن الذي قد تدفعه روسيا.
معضلة الأمن الروسي واضحة لقادة موسكو؛ فأي اقتراب لـ«الناتو» من الأراضي الروسية، بطول يمتد 1300 كم متر، هي الحدود المشتركة مع أوكرانيا، في حال انضمامها لـ«الناتو»، وهو التجمع العسكري الأكبر في العالم الآن، سيكون أمناً مهدوراً بكل المعاني، لا سيما إن تم نشر أسلحة استراتيجية على الأراضي الأوكرانية، بحيث يمكنها أن تضرب العمق الروسي في مدى زمني قصير للغاية، يفوق حالة الاستعداد للتصدي لدى الروس.
أوكرانيا في حضن «الناتو» هي خط أحمر لدى موسكو، لكن «الناتو» لا يرى الأمر من زاوية أمن روسيا، بل من زاوية التوسع شرقاً واستقطاب كل الدول التي كانت يوماً ما جزءاً من الاتحاد السوفياتي؛ بهدف الضغط على روسيا ومحاصرتها وخفض هيبتها. وتلك معانٍ تجعل الحفاظ على أمن البلاد له الأولوية على التعرض لعقوبات مهما كانت مشددة وشاملة. والجانب الآخر، أنها وصفة لحرب عالمية، قد تبدأ في إطار إقليمي وتمتد لجذب تدخلات غربية مرجح أن تحدث وإن بتدرج، وإن حدثت ستزيد الأوضاع لهيباً ممتدة إلى ما بعد أوكرانيا إلى أوروبا وما بعدها.
تصورات الاستراتيجيين الأميركيين والأوروبيين متنوعة، أحدها لا يرجح غزواً روسياً لكامل أوكرانيا، بل المحتمل أن يكون لجزء منها شرق البلاد يدعم تقسيمها ويؤدي إلى ولادة دولة أو كيان في شرق البلاد يعمل كحائط صد لتوسع «الناتو»، ويزيد من مصاعب ما يتبقى من أوكرانيا التي ستفقد في هذه سيادتها على كامل أراضيها، ويحول دون حصولها على عضوية «الناتو» باعتبارها ستكون دولة مليئة بالمشكلات الجيوسياسية غير الممكن السيطرة عليها.
التصور الثاني، أن روسيا لن تقدِم على أي غزو يتجاوز الأراضي الأوكرانية، بل ستقوم بضربات مؤثرة للقدرات العسكرية والبنية الأساسية لإدارة الدولة الأوكرانية، وبما يجعلها عبرة لغيرها من الدول التي تتحدى اعتبارات أمنها القومي. التصور الثالث وهو توظيف الأزمة من أجل التفاوض مع «الناتو» والولايات المتحدة للحصول على ضمانات أمنية مكتوبة موثقة دولياً تراعي مطالب روسيا في الأمن القومي. وهو تفاوض يتبع أسلوب حافة الهاوية، حيث التهديد المباشر بالحرب، أو القيام بتحركات مكثفة، مثل حشد أعداد كبيرة من الجنود على الحدود مزودين بالأسلحة المختلفة، كما هو الوضع الراهن، بحيث تقنع الطرف الآخر، أي الغرب، بأن الحرب على وشك الحدوث، مما يدفعه إلى تقديم التنازلات المطلوبة لموسكو.
التصورات الثلاثة على هذا النحو تعكس حيرة الطرف الغربي المعني بالأزمة، تبرز عدم اليقين كيف سيتصرف الرئيس بوتين؟ لكنها أيضاً تعكس استعداداً نظرياً على الأقل لعدد من الاختيارات المحتملة. ويظل الموقف الروسي الذي يتحرك بثبات هو المحور، سواء في التصعيد الجزئي أو الشامل. الجانب الآخر في التصورات الغربية، أنها تنطلق من قناعة ضمنية بأنه يمكن التضحية بأوكرانيا من أجل توريط روسيا في مغامرة شبيهة ما حدث للاتحاد السوفياتي في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، وأدى إلى سقوطه لاحقاً كأحد أكبر التغيرات الجيوسياسية في التاريخ على حد وصف الرئيس بوتين. أوكرانيا لدى الغرب ليست سوى أداة يتم النفخ فيها لهدف أبعد من سيادتها أو وحدتها الإقليمية. توريط روسيا كحالة أخرى من أفغانستان يبدو صعباً، والمحللون الروس يضعون فاصلاً كبيراً بين ما كان وما يمكن أن يحدث، مشيرين إلى أن الثمن سيدفعه الجميع. والأفضل لديهم ولدى العالم الرشيد، أن تؤخذ مطالب موسكو في الاعتبار.