الشرق اليوم- تطبّق روسيا راهناً نسختها الخاصة من “عقيدة مونرو” بفضل فلاديمير بوتين، فعلى غرار العقيدة الأصلية التي أطلقها الرئيس الأمريكي جيمس مونرو عام 1823، يمكن اختصار الوضع اليوم بعبارة “الدخول ممنوع”!
كان مونرو قد أمر الأوروبيين بالبقاء خارج “مساحته” معتبراً تدخّلهم “تهديداً للسلام والأمان”، ويبقى ذلك الموقف مجرّد تهديد ظاهري لأن الرئيس الأمريكي الجمهوري الشاب لم يكن يملك حينها قوة عسكرية وبحرية كافية لفرض هذا الحظر، وفي الوقت نفسه تجاهل قادة العالم القديم موقف مونرو لأنهم كانوا منشغلين بمسائل محلية أكثر إلحاحاً نتيجة الدمار الذي سبّبته حروب نابليون والاضطرابات الثورية في أنحاء القارة.
لكنّ النزعة “البوتينية” اليوم ليست مزحة، بل إنها تخوض لعبة كبرى لكسب النفوذ، فيريد الرئيس بوتين انتزاع معاهدة من الغرب لتكريس نطاق النفوذ الروسي الذي يمتد من بحر قزوين إلى البلطيق، ويجب ألا يضم حلف الناتو أي أعضاء جدد، ويُفترض ألا تصل أي صواريخ نووية أمريكية إلى روسيا، حيث يتعلق الدافع الكامن وراء هذه المطالب بالسعي إلى استرجاع الإمبراطورية السوفياتية السابقة.
لا تملك الولايات المتحدة اليوم أي خيار عسكري مقبول في أوكرانيا أو مضيق تايوان، فروسيا تتفوق على أوكرانيا بكل وضوح، وتعمد الصين إلى إعادة التسلح بسرعة فائقة، ويمكن تهدئة موسكو وبكين على الأرجح عبر تقديم تنازلات على شكل نوايا حسنة، لكن ما الذي سيقنع هذا الثنائي الرجعي بوقف ما يفعله إذا كان يحقق مكاسب كبرى؟
يريد بوتين التأكيد على نطاق نفوذه في جميع الظروف، وسيتابع الرئيس الصيني شي جين بينغ تكثيف جهوده لتحقيق أهدافه، فالمأزق الأميركي إذاً لا يقتصر على تراجع خيارات واشنطن العسكرية، بل تتعلق المشكلة الحقيقية بالمفاهيم والأهداف والأدوار المرتقبة، لقد تركت الولايات المتحدة وراءها فراغاً كبيراً، ولا مفر من اعتبار هذا الفراغ دعوة لظهور جهات أخرى.
حتى القوة الأمريكية العملاقة مضطرة لخوض لعبة النفوذ إذا أرادت الحفاظ على مكانتها المرموقة، وسيكون الانسحاب مرادفاً للخسارة، وسرعان ما تتراكم الخسائر الصغيرة، فهذا هو مصير القوى العظمى التي تضطر للتمسك بالتزاماتها في كل مكان، وإذا استغلت روسيا والصين تفوّقهما المحلي، يجب أن تختار الولايات المتحدة المساحات المفتوحة التي يتفوق فيها الأمريكيون، والأهم من ذلك هو تجنّب الحرب عبر تقوية نظام الردع، وسيكون إبقاء قوات جديرة بالثقة في مكانها أكثر أماناً وأقل كلفة من الاضطرار للقتال لاسترجاع المواقع بعد الانسحاب منها، وتقضي القاعدة الذهبية في هذا المجال بترك أعباء تصعيد الوضع على عاتق الخصوم.
غالباً ما تكون الاستنتاجات المستخلصة من الأحداث قليلة الكلفة، لكنها قادرة على توجيه التحركات المستقبلية، فقد كان يُفترض أن يزوّد الرؤساء باراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن أوكرانيا بصواريخ مضادة للدبابات والطائرات لرفع كلفة أي توسّع روسي محتمل، فسباق التسلح يحمل سمعة سيئة، لكنه يشير إلى قوة الإرادة أيضاً، ولهذا السبب ما كان يُفترض أن يطرح بايدن ميزانية دفاعية مُخفّضة للسنة المالية 2022، وكان الكونغرس أكثر ذكاءً منه حين خصّص قيمة تتجاوز معدل التضخم.
لن يكون التفاوض مع بوتين كافياً لإخماد الانقسامات السائدة حول روسيا، فالمسؤولون القدامى يتذكرون أنهم احتاجوا إلى سبع سنوات خلال الثمانينيات للتخلص من الصواريخ النووية السوفياتية التي كانت تستهدف أوروبا الغربية، واستنتج بوتين أن النفوذ أساسي لتحقيق أهدافه، ومن المتوقع أن يبقي دباباته في مكانها لإخافة أوكرانيا، فهي مقاربة بسيطة وفاعلة للضغط على الخصوم، ويمكن بلوغ الهدف نفسه عبر التلاعب بإمدادات الغاز الروسي لتذكير الأوروبيين بضعفهم في هذا القطاع.
لن تتبخر “عقيدة مونرو” التي يطبقها بوتين في أي وقت قريب، لكنها قد تكون جرس إنذار بعد 12 سنة من تخفيض النفقات الأميركية، فالرسالة واضحة: لا مهرب من سياسة القوة ولا مجال للتراجع منعاً لزيادة جرأة الخصوم، فالبلد يستطيع أن يطبّق سياسة التعاون أو الاحتواء عند الحاجة، لكن الحل لا يكمن في الاستراتيجية التي تدعوه إلى التركيز على شؤونه الداخلية.