بقلم: راغب جابر – النهار العربي
الشرق اليوم – الفيدرالية في لبنان فزّاعة وليست حلاً. لا أسباب موضوعية لها ولا مقومات واقعية. هي غالباً تعبير عن ضيق بعض الأطراف السياسيين من تعقيدات “التعايش” مع أطراف سياسيين آخرين، وعدم التوافق معهم على تقاسم البلد حصصاً حصصاً. إنها مرتبطة بالطمع بحصة وازنة وفق التعبير المستخدم، للدلالة على حجم هذا الطرف أو ذاك في معادلة شد اللحاف كل الى ناحيته.
لكن الفيدرالية المرفوضة علناً وبقوة التمسك بالوحدة الوطنية (هل هي موجودة؟) ووحدة الأرض والدولة والمؤسسات ليست كذلك في الواقع. الواقع يشي بفيدرالية مقنّعة أخطر من فيدرالية السياسة وألاعيبها وتجاذباتها.
كلهم يعرفون أن الفيدرالية السياسية والاقتصادية والإدارية مستحيلة، أقله الآن، فلا قرار دولياً بها ولا حتى محلياً من القوى المؤثرة. هي معزوفة تكررها جوقة من الهواة وسياسيي الصف الثالث الطامحين الى مقاعد متقدمة قليلاً، علهم يحظون بنعيم السلطة ومغانمها. فالسلطة ومواقعها في لبنان هي مغانم تفتح أبواباً ذهبية لداخليها المحظوظين.
السياسيون المحترفون والكبار لا يقاتلون من أجلها، لأنهم يعرفون أن الزمن ليس زمنها ولا الأرض أرضها، لكنهم يقاربونها مداورة ومناورة وتلميحاً وتمويهاً.
لبنان ليس بلد كانتونات إثنية صافية، ولا كانتونات طائفية خالصة، ولا بلد بيئات متقاتلة، ولا مناطق متباعدة جغرافياً وبيئياً… إنه بالكاد يكون بلداً، بلداً صغيراً، كله على بعضه لا يشكل إقليماً في دولة اتحادية (فيدرالية). لا إثنيات في لبنان، هو مزيج من إثنيات تشكلت على مدى آلاف السنين من شعوب أقامت وغزت ولجأت وتزاوجت، حتى أنتجت هذا الشعب الذي فيه دم فينيقي ودم عربي ودم إفرنجي ودم تركي ودم مصري وآشوري وكلداني… هكذا تقول الفحوص الجينية. ولبنان ليس بلد كانتونات طائفية خالصة، هناك مناطق أكثريات معينة، لكنها متلاصقة ومتداخلة بعضها ببعض، تداخلاً لا يمكن معه فصلها. إنها توائم سيامية بقلب واحد.
لبنان بلد فيدرالي روحياً ونفسياً، ربما هو أقل من فيدرالي. لقد تسلل اليأس إلى أرواح الناس وما عادوا يؤمنون لا ببلد ولا بوحدة ولا بالكيان كله أصلاً. لكن مهلاً، لم يصل اللبنانيون، على الأقل قسم معتبر منهم، الى هنا من تلقاء أنفسهم، أو لأن انحرافاً ذاتياً أصابهم. لم ينحرفوا عن الإيمان ببلدهم ووحدتهم، بل حرفوا، ومن حرفوهم ما زالوا يناهضون الفيدرالية. يناهضونها وهم على حق لأنها غير منطقية، لكن ماذا عن الفيدرالية النفسية والروحية التي كرّسوها في النفوس؟
من ألاعيب السياسة في لبنان أن السياسي الذي هو غالباً زعيم طائفة، أو نصف زعيم أو صاحب شأن فيها، أو طامح إلى زعامتها، هو معارض شرس للفيدرالية ومنافح مخلص عن الوحدة الترابية ووحدة الدولة والمؤسسات، لكنه في الحقيقة فيدرالي صاف في الممارسة.
السياسي في لبنان على العموم يصل الى مركزه بقوة النظام الطائفي الذي اخترعه هو بنفسه مع شركائه الطائفيين، فيمارس السياسة بفئوية فاقعة تميز بين مواطن وآخر. مصلحة الطائفة قبل مصلحة الوطن، ولا بأس إذا خرب الوطن وتحققت مصلحة الطائفة، وقضايا المنطقة قبل قضايا الوطن، ولو سقط الوطن. السياسي في لبنان يتعاطى مع أبناء وطنه من الطوائف الأخرى، ويعلّم أبناء طائفته أنهم “الآخرون” الذين يريدون أن يسرقونا أو “يأكلونا”. يقول لهم كل شيء حلال عليكم، الدولة لكم وكل ما فيها حلال عليكم.
يرفض السياسي اللبناني الطائفية (فيدرالية النفوس) ويحقنها بالفيتامين في الوقت نفسه. يمارسها في كل شيء ويعيبها على الآخرين. يشيطنها في النهار ويسامرها في الليل، ويتصارع في ظلها مع غيره من السياسيين المشابهين صراعاً ينهك البلاد والعباد ليتفقوا في نهاية الأمر على توزيع الغنيمة “فيدرالياً”.
لا، ليس لبنان الراهن بلداً موحداً نفسياً وروحياً، وليست وحدته الوطنية في حال حسنة، البلد الذي ما زال يرفض النظام الفيدرالي عن حق يعاني مما هو أخطر من الفيدرالية السياسية، إنها فيدرالية الطائفيين. ولن يكون للبلد مستقبل لا فيدرالي ولا غير فيدرالي في ظل النظام الطائفي المدمّر.