بقلم: أزراج عمر – النهار العربي
الشرق اليوم – من المعروف أن الجزائر قد سبق لها أن أسست مجلس المحاسبة في عام 1976 ليتولى الرقابة على أموال الدولة والجماعات الإقليمية، ولكن فعاليته كانت محدودة وبسبب ذلك لم يعد المسؤولون الفاشلون والأشخاص المتسببون بالأزمات المالية والاجتماعية والاقتصادية يحاسبون بصرامة، الأمر الذي كرّس ولا يزال ينشر مرض الفساد المالي في البلاد على مستوى الهياكل المركزية وفي البلديات والدوائر والمحافظات.
وهنا نتساءل: هل سيكون التفعيل الحالي لمجلس الأمة الجزائري (الغرفة العليا من البرلمان) وتحريك لجنة التحقيق التابعة له والمكوّنة من 40 عضواً، بديلاً ناجعاً يمكّن فعلاً من القضاء على الأزمات الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة ومحاسبة المسؤولين على مستوى وزراء الحكومة والمديريات الكبرى الحساسة مركزياً وعبر المحافظات الحدودية التي ما فتئت تشهد منذ أشهر عدة تدهوراً في مجال توفير التموين الكافي للمواطنين بسلاسة، كما الإخلال بالسير الطبيعي للاقتصاد الوطني ذي التأثير الاجتماعي المباشر؟
هل ستسفر عملية مثول أربعة وزراء ومسؤولين كبار، خلال مدة قصيرة أمام هذه اللجنة، كما وعد الرئيس عبد المجيد تبون ورئيس مجلس الأمة صالح جوجيل، عن الإطاحة ببعضهم وأيضاً المسؤولين الكبار جراء تفشي مرض المضاربة في قطاعاتهم حيث تعرضت البلاد لأزمات متتالية أدت إلى ندرة واختفاء بعض السلع الأساسية من السوق فضلاً عن غلائها الفاحش، وفي مقدمها المواد الغذائية الأساسية ومواد البناء ما يهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلاد؟
يبدو واضحاً من تصريحات الرئيس الجزائري أنه قد قرر الضرب بيد من حديد، وحسم الأمر في أن يكون تقرير لجنة مجلس الأمة على طاولته خلال 22 يوماً فقط ابتداء من الآن بهدف دراسته بسرعة لمعرفة حقيقة وضعية السوق. ولكن سبر أحوال السوق شيء واتخاذ الإجراءات الكفيلة بعلاج الأزمات المتراكمة في القطاعات الحساسة، وهي التجارة والصناعة والضرائب والجمارك، شيء آخر.
فالرئيس تبون يدرك جيداً أن المتحكمين بالمواد الغذائية المختلفة وأسعارها ليسوا غرباء عن دوائر الحكم ولهذا يصعب القضاء عليهم بسهولة. كما تدرك السلطات الجزائرية التي توجد راهناً في واجهة الحكم أن هؤلاء المحتكرين للتجارة الداخلية والخارجية لديهم القدرة على خلق الأزمات التي يمكن أن تشعل التظاهرات الشعبية، على غرار نموذج الحراك الشعبي الذي أدى إلى سقوط حكم الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة وجناحه المدعو بـ”العصابة” التي نهبت المال ودمرت هيبة السلطات وخربت العلاقة بين الشعبة وجهاز الدولة.
ويلاحظ أن لجنة مجلس الأمة مكوّنة من التشكيلات السياسية الممثلة في الغرفة العليا للبرلمان مثل “سيناتورات” الثلث الرئاسي الذين عيّنهم رئيس الدولة إلى جانب الأعضاء المنتخبين عن أحزاب القوى الاشتراكية و”جبهة التحرير الوطني” و”التجمع الوطني الديموقراطي”، والتي تهيمن على مؤسسة مجلس الأمة.
ويؤكد مراقبون سياسيون جزائريون أن تكليف هذه اللجنة البرلمانية بالتحقيق الميداني يدخل في إطار تفعيل الرئيس تبون لمنظومة الغرفة العليا للبرلمان التي يفترض أنها تمثل الشعب والرئاسة، وذلك بقصد إضفاء الشرعية الشعبية على خيار الرقابة.
ولكن هناك من يرى أن استبعاد المجلس الشعبي الوطني (الغرفة السفلى للبرلمان) من هذه اللجنة يُضعف مثل هذه الشرعية من جهة ويقصي من جهة أخرى الغرفة السفلى للبرلمان الشعبية المحض من تأدية دورها في جعل الرقابة بيد الشعب وممثليه الذين انتخبهم للقيام بمهمة الدفاع عن مصالح المواطنين.
رغم هذا التمثيل الجزئي لمنتخبي الشعب والثلث الرئاسي في هذه اللجنة المكلفة ممارسة الرقابة وبرفع تقريرها حول تفاقم ظاهرة المضاربة، وندرة وغلاء المواد الأساسية إلى الرئيس تبون في مدة أقل من شهر، فإن مكوّنات المجتمع المدني وروابطه وجمعياته لا تهمها الوعود البراقة التي غالباً ما تزين من طرف السياسيين وأجهزة الحكم ببراغماتية مكشوفة بهدف امتصاص غضب المواطنين، بل هي تتنظر ما ستسفر عنه الأفعال في الميدان.
ورغم مظاهر الإحباط، هناك تفاؤل هذه المرّة بين أوساط المواطنين عبر الجزائر العميقة، بلجنة التحقيق هذه، لأنه يفترض أن التنسيق بين مؤسسة الرئاسة وبين مجلس الأمة سوف يتكلل بوضع مخطط عملي يمكّن من تجاوز الآليات القديمة الفاشلة التي كانت تُختزل نمطياً في الاكتفاء بمساءلة الوزراء شفهياً في الدورات البرلمانية، وتهمل جراء ذلك التحقيق الصارم في ممارساتهم وممارسات كبار المسؤولين المكلفين تسيير القطاعات الاقتصادية الحيوية عبر الوطن.
وبحسب تصريحات رئيس مجلس الأمة صالح جوجيل، فإن عملية التفتيش والرقابة التي ستمارسها لجنة التحقيق ستكون ميدانية حيوية وذلك بقيام أعضائها بزيارات تفتيشية إلى 10 محافظات قريبة من حدود الجزائر المتاخمة لتونس وموريتانيا والمغرب ومالي والنيجر وليبيا، وهي تبسة، سوق أهراس، الطارف، تلمسان، بشار، أدرار، برج باجي مختار، تامنغست، إن قزام، ورقلة، الوادي، وإليزي وجانت.
ومن الواضح أن التركيز على هذه المحافظات الحدودية مقصود لأنها تمثل الجيوب البرية التي تتم فيها عمليات المضاربة والتلاعب بالمواد المختلفة، منها مواد البناء والمواد الغذائية الضرورية التي ما فتئت تختفي من الأسواق وتعاني من الغلاء الفاحش المهدد للقدرة الشرائية لدى الفئات المتوسطة الهشة والفقيرة جداً في المجتمع الجزائري.
وفي الحقيقة، فإن المواطنين الجزائريين ينتظرون من الرئيس تبون، ليس فقط تفعيل الرقابة ومساءلة الوزراء والمسؤولين الكبار على القطاعات الاقتصادية، وإشراك سلكي العدالة والأمن الوطني في تعقب ومعاقبة المضاربين فقط حيثما كانوا وإنما خلق التوازن بين الدخل الفردي وبين متطلبات السوق، وابتكار منظومة دولة الرعاية الاجتماعية التي تحفظ كرامة المواطنين والتخلي عن سياسات الدعم الشكلي المؤقت للمواد الغذائية الأساسية، وترشيد سياسات الاستثمار الداخلي والأجنبي في ميادين الفلاحة والزراعة والصناعات الغذائية وتربية المواشي.
إن إجراء التعديلات الجذرية في الحكومة ومختلف الأجهزة التنفيذية القاعدية بشكل فوري وحاسم أمر ضروري ومطلوب شعبياً، من أجل تكريس تقاليد استبدال الوزراء الذين يفتقدون إلى استراتيجيات ترسيخ الأمن الغذائي في البلاد، ويكتفون فقط بارتجال الحلول الوهمية التي لا تحدث قطيعة حاسمة مع كل ما يهدد الأمن الغذائي الوطني، وما يحبط الروح الإبداعية في مجال التنمية في القطاعات التي ترتبط بمصير التجارة والبناء اللذين أصابهما الجمود ما أدى إلى تفاقم البطالة والفقر بين أوساط الفئات الوسطى والعمالية والفلاحية الجزائرية.