بقلم: د. عثمان الطاهات – صحيفة “الدستور”
الشرق اليوم – يبدو أنه يُعاد إنتاج التاريخ مرة أخرى، ففي عام 1968 عمدت الولايات المتحدة لـ «ملء الفراغ الاستراتيجي» بالشرق الأوسط عقب الخروج البريطاني كأحد مؤشرات انحسار الإمبراطورية البريطانية، لتُعاد الدائرة مرة أخرى بالإعلان عن الخروج الأميريكي لتظهر إشكالية ديناميكية تتلخص في «من سيئول له ملء الفراغ الأمريكي بالمنطقة؟»، وهو ما يدفعنا ببيان فرص القوى الإقليمية والدولية بالمنطقة بعمليات الإحلال والتبديل:
أولا: القوى الإقليمية.. الشرق الأوسط لا يبتعد عن تداعيات الإعلان الأمريكي الانسحاب من مناطق الارتكاز بالمنطقة، خاصة العراق وأفغانستان، إذ إن المنطقة ما زالت تعاني التناقضات والقلق والخلخلة التي أعقبت أحداث ما يُسمى «الربيع العربي» في بدايات العقد الماضي، والتي حاولت بعض الدول الإقليمية غير العربية، الاستفادة منها، ساعد على ذلك عدم وجود تحالف إقليمي عربي قوي، بعيداً عن العلاقات الثنائية للدول المهمة في المنطقة.
في المقابل، عزز الإعلان الأمريكي تحركات «إعادة الحوار الإقليمي»، وهو ما انعكس على عدد من المشاهدات، أهمها ما تمثل في الحوار الخليجي الإيراني، ومحاولات التهدئة لمناطق الاضطراب في اليمن وليبيا وسوريا، فضلاً عن رأب الصدع العربي، ومحاولات التقارب النوعي وكسر العزلة في الإقليم، وذلك إضافة لمحاولة العراق ومصر والأردن وسوريا ولبنان للتوصل إلى صيغ مؤسسية أولية للتعاون.
ثانيا: القوى الدولية.. ثمة توجهات نحو إعادة الحديث عن نمط «التعديدة القطبية»، خاصة في ظل الانتشار المتتالي لكل من روسيا والصين وعدد من الفواعل الأوروبية. لذا، فمن المرجح أن تسعى تلك الأطراف الدولية لمحاولات «ملء الفراغ الأمريكي»، خاصة حينما يتعلق الأمر بتوازنات أمنية/ سياسية، وأخرى اقتصادية/ تجارية، وذلك بالنظر إلى عدد من الدوافع، أبرزها:
الدوافع الروسية في الشرق الأوسط: ثمة نمط تفاعلي بدا واضحا في التحركات الروسية قائم على التصور الذهني نحو «إعادة التموضع» في قمة «النسق الدولي»، وتعزيز ذلك الأمر باستعادة النفوذ الجيو سياسي في منطقة الشرق الأوسط، جنبا إلى جنب، أجندتها التقليدية بالمنطقة، والمتمثلة في تعزيز جهود مكافحة الإرهاب، والتعاون في مجال الطاقة، والسيطرة على تجارة الأسلحة.
الدوافع الصينية في الشرق الأوسط: انطلاقا من الرؤية التي يتبناها الحزب الشيوعي بتطوير الصين لتصبح من دولة متقدمة متوسطة المستوى بحلول عام 2035م، وإلى قوة عظمى على مستوى الولايات المتحدة عام 2050، تأتي تحركات بكين نحو أحد أهم الأقاليم التي تحظى بثقل جيو سياسي فرعى بالنظام الدولي إذ بالتزامن مع الصعود الصيني، فقد حظي الشرق الأوسط بعلاقات اقتصادية وتكنولوجية وتنموية قوية مع الصين، حيث إن الشرق الأوسط يُعد بمثابة ركيزة جغرافية، وقيمة سوقية مهمة لمشروعات الربط الاقتصادي الصيني العملاقة على المستوى الدولي، مثل مبادرة «الحزام والطريق»، ومن ثم، فإن الصين أهم شريك تجاري لدول الشرق الأوسط، وذلك عبر خلق «نموذج اقتصادي صيني» بديلا عن «النموذج الغربي» في المنطقة، والترويج له عبر عمليات التنمية في البلدان المتعثرة ماليا، من خلال البنك الآسيوي للتنمية، الذي أصبح ينافس البنك وصندوق النقد الدوليين اللذين تهيمن عليهما الولايات المتحدة.
الدوافع الأوروبية في الشرق الأوسط: إحدى أهم الإشكاليات التي تؤرق الكتلة الأوروبية تجاه منطقة الشرق الأوسط، إشكالية التنظيمات الإرهابية، وإشكالية تنامى موجات الهجرات واللاجئين غير الشرعيين. ومن ثم، تسعى الدول الأوروبية من خلال وجودها النوعي في الشرق الأوسط، لتقديم مساهمات حيوية متعددة الأطراف للمساعدة في معالجة الأزمات الاجتماعية والتوترات بين الجهات الفاعلة الإقليمية. إذ يُعد خفض التصعيد والإصلاح في الشرق الأوسط أمرا بالغ الأهمية لأوروبا، وذلك عبر انتهاج عدد من السياسات تجاه دول الشرق الأوسط ، والتي يمكن تلخيصها في خمسة محاور، تتمثل في: التعاون الثنائي في عملية صنع القرار بين الكتلة الأوروبية والشرق الأوسط وتصدير قواعد الحكم الأوروبية لدول الإقليم وتنمية أواصر العلاقات البينية مع الفاعلين من دون الدول وبناء «مصفوفة برجماتية» قائمة على المصالح المتبادلة بين الكتلة الأوروبية ودول الشرق الأوسط وتعيين طبيعة المساحات المشتركة والأدوار المتباينة بين دول الكتلة الأوروبية والقوى التقليدية والصاعدة الأكثر نفوذاً بالإقليم.