بقلم: عبد الإله بلقزيز – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – منذ استفحلتِ الأزمة الاقتصاديّة والماليّة في لبنان – خاصّةً بعد فاجعة انفجار مرفأ بيروت وما كان لها من وخيم العقابيل على الأوضاع الاجتماعيّة العامّة – انفردت فرنسا، من دون سائر الدّول الكبرى في مجلس الأمن، بإدارة الأزمة اللّبنانيّة في شقّيْها السّياسيّ والاقتصاديّ، تحت عنوان الحاجة إلى إجراء إصلاحات اقتصاديّة وماليّة تعيد تصويب الأوضاع في البلاد، وتقدّم أجوبةً ومعالجةً للمعضلات الاجتماعيّة المتولّدة من أزمته. كان واضحاً – لدى الفرنسيّين – أنّ مثل هذا البرنامج الإصلاحيّ لا يمكن أن تقودهُ حكومة مثل حكومة حسان دياب، يحوم حولها جدلٌ داخليّ ولا تتمتّع بإجماع القوى كافّة، بل ينبغي أن تنهض بأمره حكومة وطنيّة تمثيليّة قادرة على أداء دورٍ لا يستقيم من غيرِ توافُقٍ وطنيّ عليه.
ويبدو أنّ السّواد الأعظم من اللّبنانيّين – مواطنين وأحزاباً وتكوينات طائفيّةً – ارتضى أن تنهض فرنسا برعاية حلٍّ للأزمات اللّبنانيّة الخانقة التي أوْقَعتِ البلادَ فيها أحداثٌ مثل استقالة حكومة سعد الحريري – في أعقاب انتفاضة أكتوبر 2019 – واستمرار حال الفراغ الحكوميّ لأشهر، والانهيار الاقتصاديّ والماليّ في مطلع العام 2020، ثم انفجار مرفأ بيروت في صيف العام نفسه، ناهيك بضغط جائحة وباء كورونا على الوضعيْن الاقتصاديّ والاجتماعيّ. ولم يكن قد وقع اتّفاقٌ ضمنيّ على دور فرنسا في لبنان، منذ استقلاله في العام 1943، كما وقَع عليه في صيف العام 2020 وخريفه، حتّى أنّ أطرافاً لبنانيّة بعينها رفعت سقف موالاتها للدّور الفرنسيّ إلى حدود الدّعوة إلى عودة الانتداب الفرنسيّ على لبنان!
وما اكتفتْ فرنسا، من جهتها بإبداء حماسةٍ سياسيّة لأداء هذا الدّور فحسب، بل ذهبت أبعد من ذلك إلى التّوكيد على مركزيّة لبنان في سياساتها العليا؛ وهو ما استدلّت عليه بزيارتيْ رئيسها فرانسوا ماكرون إلى بيروت، ولقاءاته الموسّعة مع مراجع الدّولة اللّبنانيّة ومع كتل سياسيّة ونيابيّة. والرّاجح أنّ فرنسا لم تنْتدِب نفسها، من تلقاء ذاتها، لأداء دور الرّعاية السّياسيّة للأزمة اللّبنانيّة، بل هي لا تملك أن تأتيَ مثل ذلك الانتداب الذّاتيّ حتّى لو أرادت، وإنّما تفاهمت على ذلك مع إدارة دونالد ترامب التي أجازت لها أن تتولّى تلك الرّعاية باسم القوى الكبرى، وهو ما دَلّ عليه إعلانُ المباركة الأمريكيّة لجهود الرّئيس ماكرون في البحث عن حلٍّ للأزمة اللّبنانيّة. وما كان ذلك التّكليف تبرُّعاً من واشنطن بدورٍ لباريس في هذا الشّأن، بل لِعِلْم الإدارة الأمريكيّة باستحالة الإجماع اللّبنانيّ على دورها هي السّياسيّ، وما قد يصيبها – جرّاء ذلك – من إخفاقٍ في مهمّتها في لبنان.
ومع أنّ دوراً سياسيّاً فرنسيّاً في أزمة لبنان أدعى إلى الطّمأنة، عند اللّبنانيّين، من دورٍ أمريكيّ سينقسمون عليه لا محالة؛ حيث علاقاتُ فرنسا التّاريخيّة بلبنان وموقفُها المعتدل والمتوازن والعاقل، الذي يفرض عليها إدراك حاجتها إلى حوار جميع قواهُ ومكوّناته، هي ممّا يمنحها امتياز التّفوّق على أيّ دورٍ غربيّ آخر، إلاّ أنّ فرنسا، مع ذلك، لم تستطع أن تدير الأزمة بنجاحٍ ولا أن ترعى حلاًّ سياسيّاً ناجعاً ومتوافقاً عليه، على الرّغم من كلّ الطّلب السّياسيّ على دورها، وقد أبداه اللّبنانيّون في غالبيّتهم، كما عبّرت عنه مواقف دول العالم بما فيها دول ذات مكانةٍ رئيسية في النّظام العربيّ الرّسميّ. هل يتعلّق الأمر، في الإخفاق الفرنسيّ، بتقصيرٍ في الأداء من جانب الدّبلوماسيّة الفرنسيّة، أم بتراجع الهاجس اللّبنانيّ في السّياسات الدّوليّة لفرنسا، أم لذلك علاقة بكوابحَ لبنانيّة داخليّة حالت دون أداء ذلك الدّور على الوجه المطلوب الذي أرادتْه فرنسا؟
قد يُعْزى الفشل في الأداء الفرنسيّ إلى خمود الاندفاعة السّياسيّة للدّبلوماسيّة الفرنسيّة، وتراجُع وتيرتها عمّا بدأت به؛ إمّا نتيجة ضغوطٍ دوليّة وإقليميّة قيّدتِ الإدارة الفرنسيّة للأزمة أو فرضت عليها الانكفاء إلى حدودٍ متواضعة؛ وإمّا نتيجة التّلكّؤ اللّبنانيّ في التّجاوب، والتّباطؤ في تنفيذ المطلوب من برنامج الإصلاحات وأوّله تشكيل الحكومة. والفرضيّتان التّفسيريّتان عليهما قرائن؛ منها أنّ الضّغوط الأمريكيّة زادت على لبنان، في فترة الرّعاية الفرنسيّة للأزمة، الأمر الذي لا يمكن إلاّ أن يضيف عبئاً ثقيلاً على الدّور الفرنسيّ.
ولكنّ الفشل قد يُعزى، أيضاً، إلى أخطاء فادحة ارتكبتها فرنسا في مخاطبة لبنان الرّسميّ؛ ومن ذلك، مثلاً، التّعامل معه بعقليّة أوامريّة لا يمكن لأيّ دولة أن تقبل بها، الأمر الذي استهجنه الكثيرون في لبنان وبلغت أصداؤه الصّحافتين اللّبنانيّة والفرنسيّة. وما من شكٍّ في أنّ الخطاب الاستعلائيّ الأوامريّ الفرنسيّ مشدودٌ إلى ماضٍ استعماريّ لم تستطع فرنسا، ولا غيرها من الدّول الاستعماريّة، التّحرُّر منه حتّى الآن.