بقلم: مالك العثامنة – صحيفة “الاتحاد”
الشرق اليوم – كانت هناك طرفة أواخر ثمانينيات القرن الماضي في ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي، أن نيكيتا خروتشوف وجوزيف ستالين كانا في العالم الآخر يستمعان إلى كل هذا الضجيج القادم من موسكو والمتعلق بإعادة البناء «البيروسترويكا» والتحدث بصوت مرتفع «الغلاسنوست».
خروتشوف لم يستوعب، فسأل ستالين: رفيق ستالين، ماذا يفعلون؟ أجاب ستالين بابتسامة صفراء: إنهم يعيدون البناء. فرد خروتشوف باستنكار: لكن لا يوجد شيء بنيناه، فما هو الذي سيعيدون بناءه؟
أتذكر تلك النكتة القاسية كلما سمعت أو قرأت في العالم العربي عن مطالبات الإصلاح السياسي، والاقتصادي، متسائلاً عن أي إصلاح يتحدث المطالبون به؟ وهل هناك بنية قائمة أساساً ليتم إصلاحها أم أن هناك حاجة إلى إعادة بناء من جديد؟ أم أن المأساة أكبر وحسب تعليق خروتشوف الساخر فإنه لا يوجد ما يمكن إعادة بناؤه أصلاً؟
نحن نتحدث هنا عن بنى سياسية واقتصادية صالحة لأن تكون دولاً متكاملة بالمفهوم الأصح للدولة، فهل العالم العربي لديه بنية تحتية سياسية واقتصادية يمكن القول بعدها إن عملية الإصلاح أو إعادة البناء ممكنة؟
في السودان مثلاً، والذي عانى من أكبر عملية هدم مستمرة لبناه السياسية والاقتصادية على مر عقود طويلة بدءاً من الرئيس السابق جعفر نميري وانتهاء بعمر حسن البشير.
فما الذي سيعيد السودانيون بناؤه في السودان بعد ثلاثة عقود تم فيها تقويض كل البنى السياسية من أحزاب وتيارات ومؤسسات والأخطر تم فيها تشويه وعي لأجيال عاصرت البشير طوال حكمه ولم تعرف معنى تداول السلطة أو الدولة المدنية؟
تونس كمثال آخر، التي كانت أول الأمل بسبب بنية حقيقية من فكرة الدولة المدنية كان أسسها الحبيب بورقيبة في حكمه الطويل (والمستنير على استبداده أيضاً)، لتأتي دولة قمعية ومدججة بالفساد في حكم بن علي لتقوض تلك البنى السياسية والفكرية فسمحت لتيارات «الإخوان» أن تشكل المعادل الموضوعي بعد الثورة لتتسلل إلى السلطة بعد اختطاف الثورة (وهي مهارة يتقنها الإخوان المسلمون)، فتزرع ألغامها في مفاصل الدولة ونصل إلى ما تم الكشف عنه في وقت سابق من جهاز سري موازٍ لأجهزة الدولة يبطش ويقمع ويقوم بالتصفيات، والوعي السياسي التونسي يتوه في لعبة الأحزاب والسلطة على نسق لعبة الكراسي الموسيقية.
نعم، نحن بحاجة إلى إعادة بناء من جديد، إعادة بناء ضرورية منذ عهود الاستقلال التي رسخت في وجداننا إنشائيات وطنية متحمسة نكتشف اليوم أنها لا تصلح لعالم من حولنا نحن في ذيله.
إعادة البناء تلك يجب أن تستهدف العقل الجمعي العربي، ذلك الوعي الذي أصابته انفصامات هائلة فلم يعد يعرف أين يتجه وأين يذهب.
ليس مهماً أن تبني برلماناً وتضع أمامه صناديق اقتراع بالغة الشفافية، ما دام الذي يقوم بالتصويت نفسه لا يدرك معنى الدولة والمواطنة الحقيقية، وهما المفهوم الأساس الذي يبنى عليه كل شيء.
الدولة المؤسساتية والمواطنة المرتكزة على الحقوق والواجبات هي السد الذي يقف أمام كل قوى الظلام التي تحاول التسلل والسيطرة باسم «المقدس».
لكن يبقى السؤال الخروتشوفي صالحاً لكل دولة عربية: ما الذي يمكن إعادة بناؤه؟ وما الذي يمكن إصلاحه؟