بقلم: يوسف مكي – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- في 2 فبراير من العام الماضي، نشرنا مقالاً في “لخليج” حمل عنوان “صعود الإمبراطوريات وسقوطها”، تناولنا فيه بعض النظريات التي تناولت نشأة وسقوط الإمبراطوريات. والهدف كان دحض مقولة نهاية التاريخ. وقد مررنا مرور الكرام، على نظرية أرسطو حول نشوء الدول وسقوطها. في هذا المقال نركز على أسباب سقوط الإمبراطوريات، مستعينين بأمثلة من العصرين القديم والوسيط، مسترشدين بنظرية العصبية والعمران للمؤرخ العربي عبد الرحمن بن خلدون.
إن تعدد وجود الإمبراطوريات على مر العصور، يحمل معنى متضمناً هو أن قيام أي إمبراطورية جديدة، لا يتحقق إلا على أنقاض إمبراطوريات أخرى تحل محلها. والأمر لتكراره، بات قانوناً طبيعياً، تختزله مقولة، “لو دامت لغيرك ما وصلت إليك”. إنه قانون الدورة التاريخية، وتناوب النهوض.
في هذا السياق تعد نظرية المؤرخ والعلامة بن خلدون، حول أسباب نشوء الدول وسقوطها، التي فصّلها في كتابه “المقدمة” الأكثر وضوحاً وشيوعاً، بحيث يعتبره كثير من المفكرين والباحثين الغربيين، المؤسس الأول لعلم الاجتماع.
والواقع أن أرسطو في كتابه “السياسة”، سبق ابن خلدون في التنظير لنشوء الإمبراطوريات، حين شبهها بالكائن العضوي الذي يمر بمرحلة الطفولة فالصبا والشباب والكهولة والشيخوخة، والموت. لكن أرسطو لم ينشئ نظرية متكاملة تتناول أسباب صعود وسقوط الإمبراطوريات، مثل ما فعل ابن خلدون في مقدمته الشهيرة.
اعتبر ابن خلدون “العصبية”، الركن الأساسي في نشوء الدول وتوسعها وحيويتها. وحسب نظريته، تمر الدول بثلاث مراحل هي: العصبية والعمران والشيخوخة. إن طول وقصر زمن الإمبراطوريات مرهون بفترة عصبيتها، فكلما طالت فترة العصبية، كلما طال عمرها، وكلما تشذبت عصبيتها ودخلت بقوة العمران، كلما اقتربت من الشيخوخة والسقوط.
إن مرحلة العمران هي الفترة التي تسترخي فيها الإمبراطورية وتتضاعف خلالها كلف الحكم، ويضطر الحاكم إلى زيادة المكوس. وتتوسع بمرحلة العمران دوائر الحكم، وتكثر الهدايا والأعطيات، وتشهد صراع العساكر، ويبدأ الفساد في نخز أجهزة الإمبراطورية، وتتآكل حدودها وممتلكاتها فتبدأ مرحلة الشيخوخة فالانهيار والسقوط.
ما الذي يجعل فترة العصبية طويلة في إمبراطورية ما وقصيرة في إمبراطورية أخرى؟ أو بشكل آخر، لماذا يطول عمر بعض الإمبراطوريات، ولا يكون كذلك في إمبراطوريات أخرى؟
يقدم ابن خلدون إجابته على هذا السؤال، فيذكر أسباب استمرار عهد الإمبراطورية الرومانية لأكثر من خمسمئة عام. وأيضاً الخلافة العربية الإسلامية التي تواصلت حتى سقوط الدولة العباسية، بعد أكثر من 650 عاماً على الهجرة النبوية، كما يقدم لنا تفسيراً علمياً لأسباب استمرار الإمبراطورية العثمانية، قرابة ستمئة عام.
إن الأمم من وجهة نظر ابن خلدون تبدأ تأسيس كياناتها بحالة مواجهة مستمرة، وساخنة، وأن ما يمكنها من تأسيس كياناتها الجديدة، هو تداعي كيانات أخرى، سابقة عليها، وضعفها وعدم قدرتها على الاستمرار، نتيجة لعوامل الاسترخاء التي تأخذ في البروز مع بداية العمران. إن قيام الحضارة التي هي غاية العمران، إيذان بأفول الدول المتحضرة، وتلك هي المرحلة الثانية من تطور الدول، وهي كما تقول المقدمة “غاية لا مزيد وراءها، ذلك لأن الشرف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران (..) تتبعهما طاعة الشهوات”.
وتحيل نظرية ابن خلدون أسباب السقوط إلى الحقبة الثالثة التي هي الشيخوخة، حيث تبدأ الإمبراطوريات بالتفسخ، بفعل الترف وكثرة الإنفاق. إن امتداد فترة العصبية لدى الإمبراطوريات يعني قوة كياناتها، وقصر هذه الفترة، يعني ضعفها وسقوطها. وهكذا فالأمر في جله محكوم بطول زمن حالة التحفز والمجابهة التي تصاحب الإمبراطوريات منذ نشأتها.
لقد توسعت الإمبراطوريات التي ذكرناها كثيراً، لأنها منذ بداياتها، إمبراطوريات غزو وفتح. فعلى سبيل المثال، وصلت الفتوحات العربية، بوابات الصين شرقاً، وإسبانيا غرباً. ولم تتوقف إلا بعد رحيل الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك. وبعدها اتجه العهد الأموي نحو مرحلة “العمران”، وانتهى الأمر بسقوطه، ووصول العباسيين إلى الحكم، وانتقال مركز الخلافة من دمشق إلى بغداد. واستمر خط الصعود حتى نهاية عهد المأمون.
وهذا الوضع ينسحب على السلطنة العثمانية، التي بدأت عصر الغزو منذ نشأتها حتى وفاة السلطان سليمان القانوني، لتبدأ بعدها مرحلة التراجع في قوة السلطنة. لقد كان انشغال السلطنة بالحروب من وجهة نظر عدد من المؤرخين، سبب قوتها واستمراريتها.
على أن هذه القراءة لا تنفي وجود عوامل أخرى لصعود الإمبراطوريات وسقوطها، لا تقل وجاهة، بما يستدعي الحاجة إلى المزيد من القراءة والتمحيص والتدقيق.