بقلم: د.مصطفى الفقي – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – أتابع أخبار اللاجئين والنازحين من مختلف الدول التي تشهد نزاعات مسلحة في القارات المختلفة، وعلى الحدود الفاصلة بين دولهم ودول الجوار، وكلما قرأت خبراً، أو رأيت مشهداً من مشاهد المعاناة التي يتعرض لها هؤلاء اللاجئون، وأولئك النازحون، أشعر بأن حضارة العصر تُصاب في مقتل، وأن الإنسانية بمدلولها الواسع تنزف دماً.
وكم رأينا جثث أطفال على شواطئ البحار، وتابعنا بكل ألم ما يتعرض له أولئك الذين أجبروا على ترك أوطانهم في مواجهة الطبيعة القاسية، والبرد غير المحتمل، والأمطار المنهمرة، وهم يعيشون في العراء تقريباً، يعانون الجوع والعطش والألم والمرض في مشهد حزين تحت سمع وبصر أمم الأرض وشعوبها، بل ما أكثر ما سمعنا من أحداث مخزية وتجاوزات مؤلمة تطعن حقوق الإنسان كل يوم، بل إن الأمر المؤلم أكثر هو أن قضايا اللاجئين والنازحين تجري المتاجرة بها بين بعض الدول، كما يستغلها عدد من القيادات للترويج لسياساته على حساب الدماء والآلام التي ترتبط بتلك المجموعات البشرية الغاضبة صمتاً، والحزينة منظراً، والتي تشكو من دون مجيب وتتألم من دون ردود فعل قوية من جانب الإنسانية المتقدمة.
وها نحن نقترب من نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، وتنطوي قضية اللاجئين والنازحين على أبعاد متداخلة، تلعب فيها الضمائر الضعيفة دوراً بارزاً يؤدي في النهاية إلى أن يدفع الأبرياء الثمن نتيجة أخطاء الحكام، ودكتاتورية أصحاب القرار، ودموية النزاعات المسلحة في أنحاء كوكبنا الأرضي. فكم من الحكام أذلّ بلاده، وشتت شعبه، ودفع بهم إلى مسالك الهروب في الصحارى، وعلى متن سفن بحرية هزيلة تتاجر بأحوال اللاجئين وتشتري عجز النازحين فتكون النتيجة هي تلك المظاهر الحزينة والمشاهد الصادمة، ويهمني أن أسجل هنا بعض الملاحظات المتصلة بملف اللاجئين والنازحين:
أولاً: إن الشعوب تدفع ثمن فساد قياداتها وتورطهم في دكتاتوريات حمقاء بلا مبرر، على نحو يستنزف قدرات المجتمعات، ويعصف بحقوق الشعوب، ويؤدي إلى اضطرابات تصل إلى حد النزاع المسلح والحرب الأهلية، ويكون الضحايا هم اللاجئون والنازحون في النهاية، ولذلك فإنني أظن أن أنظمة الحكم في الدول التي يخرج منها اللاجئون هي المسؤولة قبل غيرها عمّا يجري لشعوبها، بحيث لا نكاد نجد حكماً رشيداً يطيح بأبنائه عبر الصحارى والبحار، إلا إذا كان ذلك النظام فاقداً لمصداقيته، عابثاً باستقرار شعبه. فالمسؤولية الأولى تقع على الحاكم الذي يؤدي اضطراب حكمه إلى لجوء أبناء الوطن إلى خارجه، ونزوح البعض الآخر إلى غير قراهم ومدنهم خوفاً من بطش الإرهاب، أو سطوة الحكام، أو سوء السياسات.
ثانياً: إن ضعف بنية الاقتصاد الوطني تسهم في دفع الطبقات الأكثر عدداً والأقل دخلاً لكي تبحث عن بدائل في ظل الأوضاع الصعبة، ما يعني أن الدول المصدرة للاجئين والنازحين يكون قد تم تخريب اقتصادها، وترويع سكانها، وقد جاء في الذكر الحكيم ( فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). وحين يفتقد المواطن العادي عنصري الأمان والطعام فإنه يمضي على طريق الهلاك الذي لا مناص فيه من الهجرة المكانية في أسرع وقت طلباً للحياة ومضيّاً مع غريزة البقاء.
ثالثاً: لقد لاحظنا أن العالم الإسلامي يستأثر بأكبر نسبة من اللاجئين والنازحين، وذلك يعني أن هذه الأمور تصل بأصحابها للدرك الأسفل وتشوه صورة الإسلام، وتجعل الإرهاب الديني طرفاً لا يمكن تجاوزه، فها هم النازحون في مينامار، وعلى الحدود السورية، وفي داخل اليمن، ومواجهة ذلك يحتاج إلى قرارات شجاعة لمواجهة الظروف الصعبة التي طرأت على نظم الحكم التي فرطت في خيرة أبنائها، وشردت نساءها وأطفالها على نحو يدمي القلوب، ويجرح المشاعر.
رابعاً: إن اللجوء والنزوح هما وجهان لعملة واحدة، هي عملة القلق والخوف، فيها تنسكب الدموع وتتناثر الدماء مادام العنف هو سيد الموقف، لذلك فإننا نظن صادقين أن مسؤولية الطبقة السياسية في أي بلد هي مسؤولية حقيقية لا يمكن تجاوزها، ويتعين على الحاكم في هذه الحالة أن يمضي مع شعبه حتى نهاية المطاف لكي يحميه من ظروف صعبة ومعاناة شديدة وأوجاع لا تنتهي.
خامساً: إننا لا ننكر أن المنظمات الدولية حاولت كثيراً أن تقلل من معاناة اللاجئين والنازحين ولكن الدعم المالي وحده لا يكفي، فالأطفال في حاجة إلى الأمان المعيشي والحنان الأسري، وليس إلى الفزع الدائم والخوف المقيم في أعماقهم، وهم يرددون أسئلة بريئة في محاولة لتفسير وفهم ما يدور حولهم، ولكن لا يجيب أحد.
إن محنة اللاجئين والنازحين إنما هي تعبير عن النتائج الطبيعية للنزاعات المسلحة، وانعكاس الإشكاليات المحيطة بذلك، ولندرك جميعاً أن ما يجري للاجئين وما يحدث للنازحين هو وصمة عارٍ كبرى على جبين العصر، وهي أيضاً شاهد على تقاعس زمننا، وضعف بعض أصحاب القرار في بلادنا.
إنها محنة الشعوب ومأساة البشر في عصر التقدم التكنولوجي والانتقال السريع للمعلومات والقرية الكونية الواحدة التي نعيش فيها جميعاً.. إن دموع الثكالى، وبكاء اليتامى، ومعاناة الذين تركوا الوطن والأهل، سوف تبقى معلقة في رقاب حكامٍ تلاعبوا بمصائر شعوبهم ولم يتمكنوا من حماية أوطانهم، فكانت النتيجة هي لجوء، ونزوح، وخراب، ودمار.