بقلم: الهاشمي نويرة – البيان
الشرق اليوم- دخل 12 من مناضلي اليسار الفرنسي يوم الجمعة 7 يناير (جانفي) 2022، في إضراب عن الطعام، من أجل حمل المترشّحين للاستحقاق الرئاسي، على تقديم مرشّح واحد عن اليسار، لضمان الاستمرارية في المشهد السياسي، ومنذ مدّة تسعى أطراف عديدة من اليسار، إلى مواجهة الاستحقاق الرئاسي المزمع عقده شهر أبريل القادم، بمرشّح موحّد، غير أنّ التناقضات والاختلافات العميقة بين مختلف مكوّنات اليسار، حالت، وتحول دون ذلك.
وتشير آخر استطلاعات الرأي، إلى أنّ كلّ المرشّحين المحمولين على اليسار الفرنسي، لن يحصلوا على أكثر من 23 في المئة من نوايا التصويت خلال الدورة الأولى لانتخابات الرئاسة، مع أفضلية طفيفة لجون لوك ميلونشون، والمصنّف أقصي يسار، بقرابة 10 في المئة من نوايا التصويت، وذلك بالتوازي مع انهيار كامل الأحزاب اليسارية التقليدية (الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعى)، بـ 2 إلى 3.5 في المئة. وفي المقابل، تشير نفس استطلاعات الرأي هذه، إلى تقدّم لافت لأقصى اليمين الفرنسي، حيث تحوز مارين لوبان مرشّحة حزب «التجمّع الوطني»، على 17 في المئة من نوايا التصويت، مقابل 13.5 في المئة لمنافسها على أصوات اليمين المتطرف، المرشّح المثير للجدل بمواقفه المعادية للأجانب، والمسلمين تحديداً، الكاتب الصحافي أريك زيمور، ويُضاف إلى هذه الحصيلة، نسب أخرى لأحزاب وشخصيات تقف هي الأخرى على يمين اليمين التقليدي، الذي تحمل لواءه في هذا الاستحقاق الرئاسي، فاليري بيكراس، مرشّحة اليمين، الذي يصطلح على تسميته بالجمهوري، وتعطيها استطلاعات الرأي نسبة 16 في المئة من نوايا التصويت.
ويتقدّم الرئيس الفرنسي الحالي، والمرشّح المنتظر لخلافة نفسه إيمانويل ماكرون، نوايا التصويت بـ 25.5 في المئة.
ويتبيّن من خلال هذه الأرقام، وبما لا يدع مجالاً للشكّ، أنّ المشهد الحزبي والسياسي الفرنسي، ينزع إلى اليمين، وإلى اليمين المتطرّف على وجه الخصوص، وبصفة عامّة، فإنّ هذا المشهد أصبح أرضية خصبة لتنامي الفكر المتطرّف من اليمين ومن اليسار من جهة، وكذلك لازدهار الفكر والمواقف الشعبوية التي تطبع برامج وسياسات اليمين واليسار المتطرّفين على السواء.
ونعتقد أنّ هذا المشهد، هو نتيجة منطقية لسياسات رسمية، همّشت إلى حدّ كبير دور الوسائط الحزبية والمجتمعية، وخصوصاً الأحزاب والنقابات العمّالية، التي كانت تقوم بدور تعديلي للمزاج العام المواطني، هذه الوسائط التي قامت على مدى الأحقاب بدور تأطيري مهمّ، لتوجيه الرأي العام المواطني، من أجل القبول بعقد اجتماعي، مثّل من ناحية أرضية مُثلى لعلاقة سليمة بين الدولة والمجتمع، وكذلك بين مختلف مكوّنات هذا المجتمع، ومن جهة ثانية، هو عقد ساهم إلى حدّ كبير في استقرار منظومة الديمقراطية التمثيلية.
وكنتيجة لهذه السياسات، أصبح الشارع المنفلت هو سيّد الموقف، وبَدَلَ أن يتمّ القضاء على الأحزاب التقليدية، من خلال تركيز ديناميكية وسطية، تتجاوز الصراع التقليدي بين اليمين واليسار، اشتد عود التطرّف من اليمين واليسار، وهو تطوّر، وإن كان يبدو مناسباً للرئيس الفرنسي الحالي، إلّا أنّه يحمل بذور مخاطر جدّية، لأنّ الدورة الثانية من انتخابات الرئاسة، قد تحمل معها مفاجآت غير منتظرة، في حال جمعت المواجهة الانتخابية ماكرون، بأحد مرشّحي اليمين المتطرّف.
وبالطبع، لا يمكن تحميل السياسات الرسمية بالكامل، مآلات هذا المشهد الحزبي والسياسي، فمن جهة أولى، هي سياسات استغلّت بالكامل الأخطاء القاتلة التي قام بها اليسار الفرنسي، وهي من ناحية ثانية، حاولت الركوب على فشل اليمين واليسار في الحُكْمِ، على مدى 40 سنة.
ولم يكن الرئيس الفرنسي وحده من استغلّ هذا الوضع، وإنّما استغلّه ووظّفه أيضاً اليمين المتطرّف، من أجل توسيع قاعدته الانتخابية، ففي حين بدا أنّ اليسار قطع مع ثوابته التاريخية في الدفاع عن الفئات الضعيفة، في إطار رؤية وبرنامج عامّين للمجتمع والدولة، غياب الرؤية، بما جعله يفكّ الارتباط عملياً مع حاضنته المواطنية التقليدية، تبنّى اليمين المتطرّف المطالب التاريخية لهذه الفئات، وبدأ بالتالي بالاستحواذ على المجال الحيوي لليسار الفرنسي، ليضيف إلى بُعد الهويّة الذي يميّزه، الوتر الاجتماعي، من خلال الاعتناء بالمشاغل اليومية للمواطن الفرنسي.
وقد يكون تغييب اليسار لخطابه التقليدي الموجه لعموم المواطنين، لفائدة خطاب حقوقي موجّه للأقليات، يركّز فقط على الخصوصيات، وكذلك فقدانه التدريجي للرّؤية العامّة التي نفهم في إطارها، التوجّه الحقوقي، والموقف من الأقلّيات والسياسات الخصوصية، هو الخطأ القاتل الذي أدخله في دوّامة الانقراض المحتوم، ونعتقد أنّ هذه القراءة تنسحب على أغلب تجارب اليسار، وخصوصاً تونس.
إنّ الحراك الفكري والسياسي في فرنسا، كان له دوماً التأثير المباشر في الوضع السياسي في عدد من دول العالم، وخصوصاً تونس، سواء كان بالسلب أو بالإيجاب، وهو ما يدفعنا إلى التنبيه إلى أنّ استنساخ ما يجري هناك، قد تكون له انعكاسات غير متوقّعة، إنّ الوسطية في غياب الإطار الفكري والأخلاقي، قد تكون حاملة لأقصى أشكال التطرّف في فرنسا، وفي غيرها من دول العالم.