بقلم: د. منار الشوربجي – صحيفة “البيان”
الشرق اليوم – كثيرة هي الكتابات العربية التي أشارت طوال العقود الماضية للتقرير الصادر بأمريكا في تسعينيات القرن العشرين بعنوان «أمة في خطر». فهو كان تقريراً أمريكياً يحذر من أن الولايات المتحدة معرضة لخطر التراجع كدولة عظمى بسبب تدهور مستوى طلاب المدارس مقارنة بأقرانهم في دول أخرى كبرى أو صاعدة. وتلك الكتابات العربية كانت محقة في اهتمامها بالتعليم الذي يمثل جوهر تقدم الأمم.
تذكرت ذلك الاهتمام العربي بينما أتابع أخبار ما يجري اليوم بالمدارس الأمريكية. ذلك لأن الأحداث الجارية لا تقل أهمية، في تقديري، إن لم تزد في تأثيرها على مستقبل أمريكا.
فالجدل الحالي يدور حول كتابة التاريخ الأمريكي وما ينبغي أن يقرأه الطلاب ما دون التعليم الجامعي عن قرون العبودية والفصل العنصري. فتيار أقصى اليمين راح يهيمن على الخطاب العام بخصوص التعليم ويستغل نظرية علمية لا تُدرّس أصلاً بالمدارس ولا حتى في كل الجامعات لإثارة ذعر أولياء الأمور البيض.
فالنظرية، التي برزت أصلاً في دراسات القانون ثم انتقلت لغيرها من فروع العلوم الاجتماعية، أطروحتها الأساسية، باختصار، هي أن التمييز الهيكلي الذي يعاني منه السود اليوم لا يمكن فهمه دون الأخذ في الاعتبار أن المسألة العرقية لعبت دوراً مهماً منذ نشأة الدولة الأمريكية وحتى اليوم.
ورغم أن النظرية اقتصر استخدامها على الأكاديميين في دراساتهم وظلت طويلاً داخل أروقة الجامعات بالأساس، إلا أن تعبير «العنصرية الهيكلية» صار مفهوماً يشير له قطاع معتبر من المثقفين الأمريكيين، السود والبيض بالمناسبة، في كتاباتهم.
لكن تيار تفوق البيض يرى هوية أمريكا، التي هي عنده هوية البيض المسيحيين، قد صارت مهددة في مجتمع صار أكثر تعددية عرقياً وإثنياً ودينياً. ومن هنا، يجد هذا التيار في الحديث عن العنصرية الهيكلية تهديداً لأنه يؤدي بالضرورة للحديث عن إصلاح الأوضاع القائمة على نحو يحقق العدل والحرية لغير البيض، خصوصاً أولئك المنتمين لجماعات تعرضت لقهر وظلم تاريخيين.
ومن هنا تشكلت تلك الحملة الضارية التي تزعم اليوم زوراً أن النظرية الأكاديمية المذكورة يتم فرضها فرضاً على طلاب المدارس مما يجعل الأطفال البيض «يكرهون بلادهم ويشعرون بالذنب». ومن ثم فإن الحل، عندهم، هو منع تدريس تلك النظرية في المدارس.
وصارت الولاية بعد الأخرى تصدر قوانين تحظر تدريس مثل تلك المواد بالمدارس. بل ونجحت الحملة في طرد بعض المدرسين من وظائفهم عبر الضغوط التي تمارس على مجالس إدارات المدارس. والقضية لم تتوقف عند ذلك الحد، إذ صارت أقرب حرفياً لمحاكم التفتيش، إذ طالت التخلص من كتب بعينها من مكتبات المدارس وحظر تدريس غيرها.
فكان من بين تلك الكتب، على سبيل المثال، رواية «العيون الأكثر زرقة» البديعة لأديبة نوبل السوداء توني موريسون.
ولعل بدايات تلك الحملة ترجع للضجة التي أثارتها النيويورك تايمز حين نشرت سلسلة من المقالات المطولة كان عنوانها «مشروع 1619» وهو مشروع بحثي قام عليه مجموعة من الباحثين سعى للتأريخ لنشأة الدولة الأمريكية ليس بإعلان الاستقلال عن بريطانيا عام 1766 وإنما عند وصول أول أفريقي تم استعباده في أمريكا عام 1619. والهدف كان محاولة لإعادة النظر في طريقة كتابة التاريخ الأمريكي تهدف لفهم دور العبودية في نشأة أمريكا وتأثيرها الباقي حتى اليوم في المؤسسات والهياكل بل ونمط الحياة.
والحقيقة أنني طالما لاحظت أن الكتب الدراسية الأمريكية، لكل المراحل بما فيها الجامعية، تقفز على الكثير من حقب التاريخ أو تختزلها في سطور قليلة. ومن ذلك مثلاً اختصار القرون الطويلة التي شهدت فظائع ضد السكان الأصليين في سطرين أو ثلاثة.
وذلك كله يدعو للتأمل في حال مجتمع يثير فيه مشروع بحثي أو نظرية سياسية قلقاً وذعراً لدى قطاعات من المواطنين. فهي حالة ذات دلالة بالغة على طبيعة مجتمع يفضل البقاء بعيداً عن فهم حاضره عندما يقاوم استيعاب ماضيه بحرية ودقة.