بقلم: راغدة درغام – النهار العربي
الشرق اليوم- الموعدان الحاسمان في تحديد ما إذا كانت الحرب الباردة عائدة بسخونة حارقة هما غداً الاثنين يوم اللقاء البالغ الأهمية بين مندوبي الولايات المتحدة وروسيا في جنيف، ويوم الأربعاء في 12 كانون الثاني (يناير) عندما يلتقي الوفد الروسي مع وفود دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) في بروكسيل.
الموعد الآخر الذي يزحف إما الى الانفراج أو الى مواجهة من نوعٍ آخر هو الجولة المقبلة من مفاوضات فيينا مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية حول مصير إحياء الاتفاقية النووية معها. القاسم المشترك بين الدبلوماسية الروسية والدبلوماسية الإيرانية هو عسكرتهما ضمن سياسة زج الآخر في الزاوية. المؤسسة العسكرية في موسكو ترى أن عسكرة الدبلوماسية الروسية هي الوسيلة الى إعادة خلط الأوراق، بالذات مع الولايات المتحدة، ضمن خطوات استباقية لإحباط مشاريع توسيع عضوية “الناتو” التي يعتبرها الكرملين مصيرية للرئيس فلاديمير بوتين ولروسيا. المؤسسة الثيوقراطية في طهران ترى أن عسكرة الدبلوماسية الإيرانية عبر إبراز العضلات النووية هي الطريق الى إخضاع الولايات المتحدة للشروط الإيرانية المصرّة على رفع العقوبات كلها وكليّاً، وليس تدريجياً.
الدول الأوروبية التي تتفاوض مع طهران بدأت تنزعج من الابتزاز الإيراني لها ومن زجّها في الزاوية، فبدأت تقاوم الانصياع الى الهلع من العسكرة النووية للدبلوماسية الإيرانية. هذه الدول -ألمانيا، بريطانيا، وفرنسا- وغيرها في الاتحاد الأوروبي منشغلة أكثر هذه الأيام بالأزمة الصاعدة مع روسيا بسبب أوكرانيا وبسبب تهديدات الرئيس بوتين باتخاذ اجراءات عسكرية. بعضها، كألمانيا، يرى أن من الضروري قطع الطريق على اعتزام روسيا اللجوء الى الخيار العسكري وذلك عبر فرض رزمة عقوبات تكرسح روسيا بصورة استباقية لتطيح المغامرة العسكرية أو تكبّلها. كل هذه التهديدات التصعيدية، بالعسكرة أو بالعقوبات، ترسم لوحة قاتمة تغيّر ملامح الخطاب الدبلوماسي وأصوله برمّته. وهنا الخطورة.
بدأت الصفحة الخطيرة من التصعيد عندما توجّه الرئيس بوتين الى “الناتو” بلغة الإنذار النهائي ultimatum وتوعّد بإجراءات عسكرية في اطار المصالح الجيوسياسية وليس فقط ضد أوكرانيا. كان ذلك منذ أسبوعين تقريباً بعدما تقدّم بوتين بشروطه المستحيلة الى أعضاء “الناتو” عبر مسودّتين لمشروعين أرادهما أساساً لأي مفاوضات ينطويان على مطالبة روسيا الحلف بعدم التوسّع ليشمل أوكرانيا خصوصاً، وبالحد من التعاون العسكري الغربي في أوروبا الشرقية وفي بلدان الاتحاد السوفياتي سابقاً.
بوتين يعتبر سياسات الدول الغربية نحو أوكرانيا عدوانية، وهو يرى أن مصيره السياسي ومصير روسيا مرتبطان بقدرته على وقف الزحف الغربي لتوسيع عضوية “الناتو” لتشمل أوكرانيا وجورجيا وربما حتى فنلندا، الى جانب قلقه البالغ من تطورات بيلاروسيا
فنمو “الناتو” يعني لبوتين تدمير فكرته بإعادة لمّ شمل دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، وبالتالي المغامرة بتحجيمه وتحجيم أفكاره وتحجيم روسيا كما يراها. ولذلك، لا مناص من التصعيد. المؤسسة العسكرية في روسيا توافقه الرأي وترى أن مصلحة روسيا تقتضي التحدّث بلغة العسكرة لأن الغرب لا يفهم لغة الدبلوماسية. وزارة الخارجية الروسية لها رأي مختلف ووزير الخارجية سيرغي لافروف يعتقد، حسبما يبدو، أن لغة الدبلوماسية واجتماع 10 كانون الثاني (يناير) سينزعان فتيل التصعيد، وأن الرئيس الأميركي جو بايدن سيقوم بكل ما في وسعه لاحتواء التصعيد مع نظيره بوتين لأن روسيا في نهاية المطاف أهم للولايات المتحدة من أوكرانيا وحتى “الناتو” في معادلات العلاقات الكبرى.
البعض في روسيا يعتقد أن فخّاً تم نصبه لبوتين، أو أن بوتين نصب لنفسه فخّاً ورّطه وورّط روسيا فيه ليسدل عليها الستار الحديدي. رأي هذا البعض أن بوتين لم يترك لنفسه مساحة للمناورة، بل هو يؤمن بأنه ما لم يتمكّن الآن من إيقاف الغرب عند حدّه، سيكون مستحيلاً عليه وعلى روسيا إيقاف ذلك القطار بعد سنوات. فالقرار مصيري، في رأيه. التوقيت الأفضل هو الآن. والمسار المفضّل هو اختلاق المشاكل الأمنية مع الكبير في الحلبة، أي الولايات المتحدة. أما أوروبا، فإنها لاعب ثانوي أمام المُلاكم الأساسي في الساحة.
الولايات المتحدة بالطبع أضخم وأقوى في المعادلة العسكرية والاستراتيجية مع روسيا. فروسيا اليوم ليست الاتحاد السوفياتي بالأمس. إنها أضعف عسكرياً واقتصادياً، وهي بمفردها قياساً مع ما كان الاتحاد السوفياتي يمثّل أثناء الحرب الباردة. هذا لا ينفي أن تكون الولايات المتحدة في حال قلق جدّي، ولأسباب جيوسياسية.
هذه ليست أزمة الصواريخ الكوبية لعام 1961-1962، لكن تلك الأزمة كانت أكثر بساطة من أزمة أوكرانيا وأزمة “الناتو” اليوم. حينذاك كان هناك لاعبان خائفان من بعضهما بعضاً. اليوم انحسر الخوف التقليدي من البعد النووي، إنما للصواريخ العابرة للقارات مكانة.
وهنا يدخل عامل اندلاع نوع جديد ومتطور وخطير من سباق التسلّح. هنا تكمن خطورة تحكّم القرارات العسكرية على حساب لغة السياسة والدبلوماسية.
مواقف الدبلوماسية الروسية التي تراهن على الدبلوماسية الأميركية تبدو ضعيفة منطقيّاً، لا سيّما في اعتقادها أن إدارة بايدن لن تضحي بعلاقاتها مع روسيا من أجل أوكرانيا أو الدول الأوروبية. ذلك أن جو بايدن أمضى الجزء الأول من رئاسته في نسج تعاونٍ عبر- أطلسي وصقله يلغي التوتّر الذي خلّفته رئاسة دونالد ترامب بين الولايات المتحدة والشركاء الأوروبيين.
ثانياً، أن الرئيس جو بايدن ليس شخصية قيادية، لكن الولايات المتحدة دولة قائدة، وبالتالي لن يتمكّن الرئيس من التنازل أمام إنذار بوتين وشروطه التي هدفها أن تغيّر كامل هيكلية حلف “الناتو”. بل إن الجمهوريين يتأهبون للقفز على رئاسة بايدن لتمزيقها إذا ما خضع لإملاءات بوتين والتضحية بالأمن القومي الأميركي- وهذه في رأيهم خيانة تستحق العزل impeachment. ثم أن الكونغرس لن يرضى التصديق على تلك المعاهدة التي يريدها بوتين. وبالتالي عليه إما سحبها أو تعديلها.
إحدى المشاكل الكبرى أن بوتين يريد الضمانات المكتوبة التي طالب بها قبل نهاية شهر كانون الثاني (يناير) وهو يصرّ على عدم إبقاء باب المفاوضات التي ستنطلق هذا الأسبوع مفتوحاً. بالموازاة، هناك حركة عسكرية تأهبية لروسيا ولدولٍ في حلف “الناتو” استعداداً لصفحة العسكرة الدبلوماسية أو الدبلوماسية العسكرية.
نهاية كانون الثاني (يناير) هي موعد أيضاً للقادة في طهران الذين يقولون إنهم سينتظرون فقط حتى ذلك التاريخ، فإذا انهارت مفاوضات فيينا، ستكون أيديهم حرّة لاتخاذ إجراءات عسكرية وتخريبية وتصعيدية وانتقامية. إسرائيل ستكون في المرصاد. وهكذا سيقف العالم على عتبة ما أسماه أحد المراقبين “كوكتيل جغرافي – سياسي بين روسيا والولايات المتحدة وبين إيران وإسرائيل”.
وهكذا، سينطلق العالم هذا الأسبوع على لوحٍ رقيق من الجليد. فإما يتوصّل الدبلوماسيون في جنيف الى انفراجٍ والى صيغة إنقاذ ماء الوجه ويتم تجنّب حرب باردة ساخنة، أو تبدأ مواجهة خطيرة بأدوات جديدة بين روسيا والغرب، بالذات بين روسيا والولايات المتحدة، في سباق بين العسكرة والعقوبات. وهكذا أيضاً في ما يتعلّق بإيران التي ستشّد أحزمة العسكرة كلغة تخاطبٍ مع الغرب لكنها تدرك أن الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل لها بالمرصاد. ففي نهاية المطاف، إيران ليست روسيا. وروسيا ليست الاتحاد السوفياتي. والحرب الباردة اليوم ستسدل ستاراً حديدياً iron curtain من معدنٍ آخر قد يندم الرئيس فلاديمير بوتين إذا ساهم في إسداله على روسيا.