بقلم: جمال الكشكي – صحيفة “البيان”
الشرق اليوم – في مثل هذه الأيام من كل عام، يراجع الكرملين مشواره الطويل، ويسترجع ذكرياته مع القياصرة.
في يوم الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1991، توقفت عقارب الساعة عند 7:32 مساء بتوقيت موسكو، تم إنزال علم الاتحاد السوفييتي الأحمر عن مبنى الكرملين، للمرة الأخيرة في التاريخ، حل محله علم روسيا ثلاثي الأبعاد، أعلن الاتحاد السوفييتي نهايته تماماً قبل 30 عاماً، ميخائيل غورباتشوف يسلم الإمبراطورية إلى بوريس يلتسين، الأيام تمضي، والتاريخ يكتب، انهيار إمبراطورية ذات إمكانات ضخمة، ومساحات شاسعة، كانت تمتد من المحيط الهادئ شرق الكرة الأرضية، إلى قلب أوروبا وسور برلين. الإمبراطورية الحمراء، تنعى دائماً مؤسسها فلاديمير لينين، العرض مستمر لضريح المؤسس في الميدان الأحمر، من الساعة العاشرة صباحاً حتى الواحدة ظهراً.
انتهى الاتحاد السوفييتي، وانتهت معه الحرب الباردة، فهذا التفكك، بالإضافة إلى ثورات عام 1989، قاد إلى إغلاق صفحات العداء الذي كان مستمراً بين حلف الأطلسي «الناتو» وحلف وارسو.
الحدث ضخم وفاصل في خريطة توازنات القوى في العالم. أحد أضلاع القوى يهوي وينهار. صاحب بصمة المواجهة مع المعسكر الغربي على مدى النصف الثاني من القرن العشرين، لم تعد إمبراطورية ذات العلم الأحمر بنجمته، وشعار المطرقة والمنجل الشهير، غورباتشوف وصل السلطة كأصغر رئيس سناً، لكن الكثيرين لم ترُقْ لهم سياسته وفلسفته في الحكم، لدرجة أن سقوطه كان متوقعاً لدى شعبه، وانهيار الاتحاد في رأى البعض، كان بمثابة خطوة مؤجلة، وفق قراءتهم لسياسة غورباتشوف.
الاتحاد السوفييتي كان يضم 15 دولة، وهي: روسيا وأوكرانيا وجورجيا وأذربيجان، وأوزبكستان، وكازاخستان، وتركمانستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان، ولاتفيا، وليتوانيا، وأستونيا، ومولدوفا وروسيا البيضاء، وأرمينيا، وكانت روسيا أكبر هذه الدول.
الآن، بعد مضي ثلاثة عقود على تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي، ثمة سؤال يطرح نفسه، ما الدروس المستفادة من هذه التجربة، بكل تفاصيلها؟
أول الدروس، هو ضرورة الاهتمام بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية في حياة الشعوب، فالاتحاد السوفييتي كان يمتلك ترسانة نووية أكبر بكثير من الولايات المتحدة، كما كان يتفوق في الأسلحة التقليدية، لكن كل ذلك انهار تحت وقع الاحتياجات الحياتية للمواطن السوفييتي.
أما الدرس الثاني، فيقودنا إلى ضرورة أن يكون الإنفاق الخارجي من أجل أهداف ورخاء الشعب في الداخل، فالاتحاد السوفييتي أنفق المليارات على الشيوعيين في العالم كله، ووسط هذا، نسي أو تناسى احتياجات المواطن السوفييتي، فوقع الانهيار، ولم ينفع الاتحاد السوفييتي الملايين المؤمنين بأيدلوجيته حول العالم.
يأتي الدرس الثالث في غاية الأهمية، ليؤكد ضرورة ترتيب أولويات الإنفاق، وعدم الانسياق وراء الإنفاق الترفهي، أو الذي لا يتلامس بشكل مباشر مع الاحتياجات اليومية للشعوب، والاتحاد السوفييتي خير مثال على الفشل في ترتيب الأولويات، فعندما دخل الاتحاد السوفييتي في «حرب النجوم» مع الولايات المتحدة، تم استنزاف الخزينة السوفييتية، دون عائد مباشر على سكان الاتحاد السوفييتي في 13 جمهورية، وهو ما أدى في النهاية إلى تحول العلاقة بين موسكو والجمهوريات التابعة لها، إلى فشل في العلاقة، ولهذا كانت مشروعات مثل البنية التحتية والاكتفاء الذاتي من السلع والخدمات، في غاية الأهمية، بدلاً من التوسعات الخارجية.
أما الدرس الرابع، فيتعلق بالمصالح مع شعوب الدول الأخرى، وليس الأيدلوجية، لأن الأيدلوجية تضعف مع الأيام، لكن المصالح، وخاصة المصالح الاقتصادية، مثل الأسمنت، التي تربط الشعوب، لا تضعف، وخير دليل على ذلك، الدول التي عاشت في كنف الاتحاد السوفييتي عقوداً طويلة، وكانوا حلفاء في حلف وارسو، انقلبوا اليوم على روسيا، وباتت أكثر الدول التي تعادي روسيا اليوم، وهي الدول التي كانت معها أيام الاتحاد السوفييتي، في نفس الخندق، مثل جورجيا وبولندا ورومانيا وأوكرانيا وجمهوريات بحر البلطيق الثلاث، ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا وغيرهم.