بقلم: ناصر زيدان – صحيفة الخليج
الشرق اليوم– الأزمة المستجدة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا حول أوكرانيا تقدمت على ما عداها من الأزمات الدولية في نهاية العام، ولولا الانشغال الدولي بإعادة تفشي جائحة كورونا؛ لكانت القضية الأولى على أجندة مهام الدول الكبرى بعد أن نهش الوقت بريق مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني، وقد ضاع المتابعون لهذا الملف بين التسريبات الصادرة عن طهران والاقتراحات الروسية الوسطية وبين أخبار الاستعداد لمعالجة الموضوع عن طريق التدابير العسكرية.
لم تكُن التطورات التي حصلت على مقربة من الحدود الشرقية لأوكرانيا كبيرة، وهي عبارة عن مناورات تقليدية لمجموعة من وحدات الجيش الروسي المتواجدة في المنطقة، كما أن الحديث عن استعداد “الناتو” لنشر صواريخ على الأراضي الأوكرانية بالقرب من الحدود الروسية؛ لم يكن صحيحاً. والقمة الافتراضية التي عقدت عن بُعد بين الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتخفيف التوتر في أوكرانيا، ربما ناقشت قضايا أخرى غير مُعلنة، أكثر مما تناولت الحدث الأوكراني بحد ذاته، ذلك أن الرئيس بوتين شخصياً أكد عدم وجود أية نية لموسكو لغزو أوكرانيا، وليس لبلاده مصلحة بذلك على الإطلاق.
كل المعلومات التي تصدر عن الدبلوماسيين الروس لا تُشير إلى نية بغزو أوكرانيا، وأكثر من ذلك، فإن بعضهم يرى أن روسيا متأكدة من عدم دخول أوكرانيا في عضوية حلف شمالي الأطلسي، وهذا الأخير ليس في وارد افتعال مشكلة صواريخ “كوبية” جديدة وسط أوروبا اليوم، في إشارة لأزمة الصواريخ السوفييتية التي نشرتها موسكو في جزيرة كوبا عام 1962.
ويقول خبراء على اطلاع على تفاصيل الموضوع الأوكراني: إن أسباباً تتعلق بالتوازنات الداخلية تمنع البرلمان الأوكراني من إقرار معاهدة دخول البلاد في عضوية “الناتو”، لأن أكثر من ثلث سكان أوكرانيا من أصول روسية، وتربطهم علاقات دينية مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وكييف تعرف حساسية الموضوع، والرئيس الليبرالي فولوديمير زيلينسكي ليس من النوع الذي يبحث عن توترات استراتيجية خطرة، وهو لم ينتهِ بعد من بؤرة النزاع القائمة في الشرق مع متمردين من أصول روسية في إقليم دونباس، كما أنه يدرك أن استعادة السيادة على جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014 ليست بالموضوع السهل تحقيقه، خصوصاً في هذه اللحظة السياسية؛ حيث تُجمع كافة القوى السياسية الروسية على اعتبار الجزيرة جزءاً من الأراضي الروسية قبل أن تُضم القرم إدارياً إلى الإدارة الذاتية لأوكرانيا التي كانت برمتها من ضمن السيادة الشاملة للاتحاد السوفييتي السابق.
والولايات المتحدة الأمريكية التي تعاملت مع الحدث الأوكراني الذي رافق المناورات الروسية قرب حدود الأخيرة بجدية واهتمام؛ تدرك أن روسيا ليست بوارد الدخول بمغامرات عسكرية في الوقت الراهن، لكن واشنطن بالمقابل ترى أن الاسترخاء في العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي ليس في مصلحتها، فهذا الاسترخاء يفيد روسيا في تصدير غازها الطبيعي إلى أوروبا وبهدوء، ويخفف من حاجة شركائها الأوروبيين إليها، خوفاً من مغامرات عسكرية روسية جديدة.
والحكومة الأوكرانية الحالية أسهمت في التوتير الإعلامي للأجواء مع روسيا، لأنها تخاف من عدم تجديد عقد مرور الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أراضيها، وبالتالي حرمانها من عائدات تزيد على ثلاثة مليارات دولار سنوياً، إضافة إلى كون الأمر يسبب تراجعاً استراتيجياً في مكانة أوكرانيا كممر حيوي وسط القارة المتقدمة. وتهديد الولايات المتحدة الأمريكية بفرض عقوبات على الدول التي تسمح بتشغيل خط نقل الغاز “نورد ستريم- 2” الذي تمَّ إنجازه مؤخراً، يؤكد أن موضوع الغاز أساسي في حالة التوتر القائمة، فواشنطن عرضت على حلفائها الأوروبيين تأمين بديل عن الغاز الروسي إذا ما وافق هؤلاء على وقف استيراده من روسيا، لأن تدني كُلفة نقل الإنتاج الروسي في المستقبل سيؤثر في أسعار الغاز الأمريكي المُكلف والمنتج من تذويب الصخور، وهو أيضاً سيحرم الشريك الأوكراني من مورد أساسي، يساعده على الصمود في مواجهة الروس، ويحرره من بعض الاعتماد عليهم، لأن الاقتصاد الأوكراني كان يستند على روسيا عبر التاريخ.
في المحصلة، يبدو واضحاً أن “الناتو” ليس بوارد الإسراع في إدخال أوكرانيا في عضويته، لأن الموضوع مُكلف ومُتعب، ويبعث على إنتاج أزمات خطرة. وروسيا ليست بوارد إعادة احتلال أوكرانيا، وهي اكتفت بما قامت به عام 2014 ولم تنته تداعياته بعد. لكنها بالمقابل لن تترك سكان الشرق الأوكراني الذين يدينون لها بالولاء منذ القِدم.