الشرق اليوم- لفهم طبيعة روسيا، يجب أن تفهموا تاريخنا أولاً، فعلى مر القرون تحمّل بلدنا اعتداءات من جميع الاتجاهات، واضطررنا للتحول إلى وطن محارب للدفاع عن أرضنا، ولم تلتئم بعد جروح غزو النازيين وأعوانهم للاتحاد السوفياتي في ذاكرة الشعب الروسي، نحن نعرف كلفة التضحية البشرية، وقد قدّمنا 27 مليون ضحية على مذبح النصر في سبيل تحرير أوروبا كلها من المصيبة النازية.
في السنوات الأخيرة، زادت النشاطات العسكرية التي ينفذها حلف الناتو بدرجة كبيرة، ويُنظَّم نحو 40 تدريباً عسكرياً واسعاً كل سنة على مقربة من الأراضي الروسية، كذلك كثّفت الولايات المتحدة رحلاتها الاستراتيجية على طول الحدود الروسية، حيث تتدرب على إطلاق صواريخ “كروز” نحو أهداف تقع داخل روسيا، وفي الوقت نفسه رصدنا زيادة سريعة في النشاطات البحرية لقوات الحلف في البحر الأسود وبحر البلطيق.
اليوم، تُركّز أجندة الناتو على استمالة أوكرانيا وجورجيا لضمّهما إلى الحلف، وتزامناً مع “زحف” الناتو نحو الأراضي الأوكرانية، بدأ التهديد المطروح على أمن روسيا يتصاعد بكل وضوح، إذ يمكن نشر أنظمة صاروخية وأسلحة قادرة على زعزعة الاستقرار في المنطقة في أسرع وقت.
أما الانتقادات التي تطلقها دول الناتو لاستنكار “الاعتداء” الروسي ضد أوكرانيا وجورجيا، فهي متوقعة، ومن الواضح أن تحركاتنا أعاقت الخطط الرامية إلى الإمعان في اختراق الحدود الروسية.
الوضع القائم خطير جداً، ويجب ألا يشك أحد في تصميمنا على الدفاع عن أمننا، لكل شيء حدود! إذا أصرّ شركاؤنا على بناء واقع عسكري واستراتيجي يُهدد وجود بلدنا، سنضطر لإنشاء نقاط ضعف مماثلة ضدهم، فلم يعد الوضع يسمح بالتراجع في هذه المرحلة، حيث يطرح الاستكشاف العسكري الذي تنفّذه دول حلف الناتو في أوكرانيا تهديداً وجودياً على روسيا.
يتطلب الوضع خطوات عاجلة، ولا بد من تجديد مبدأ الأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة، وذلك يعني أن أي دولة فردية لا يحق لها تقوية أمنها على حساب الدول الأخرى، وانطلاقاً من الإرادة السياسية القوية، يمكن تحقيق هذا الهدف عبر طرح ضمانات أمنية جدّية وطويلة الأمد ومُلزِمة قانوناً.
نريد أن نَطْمَئِنّ بشأن المستقبل، لذا نحتاج إلى التزامات جدّية من الولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى لضمان الامتناع عن توسيع نطاق الحلف أو نشر أنظمة تسلّح قد تُهدد روسيا في أراضي الدول المجاورة، سواء كانت منتسبة إلى الناتو أو تقع خارج الحلف.
من الضروري أن تنضم واشنطن إلى القرار الروسي الأحادي المرتبط بوقف نشر الصواريخ الأرضية متوسطة المدى، يجب أن يفكّر المعنيون جدياً باقتراحاتنا المتعلقة بسحب مناطق التدريبات من خط الاحتكاك بين روسيا وحلف الناتو، وتلك التي تهدف إلى منع التحركات المفاجئة وتقليص النشاطات العسكرية الخطيرة.
نُشِرت مشاريع الاتفاقيات الروسية المتعلقة بالضمانات الأمنية علناً لتجنب انتشار التوقعات الخادعة، فهي لا تتعدى على أمن الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، بل تنشئ الظروف المناسبة لمنع تصعيد الوضع في أوروبا، وترميم الثقة، وتكثيف التفاعلات لحل المشاكل العالمية، لا سيما المعركة ضد وباء كورونا، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل ووسائل توصيلها، وإعادة بناء الاقتصادات الوطنية، ومعالجة أبرز المسائل المرتبطة بالتغير المناخي.
أصبح الأمن الأوروبي اليوم على مفترق طرق، ويتوقف مسار تطور الأحداث في المرحلة المقبلة على استعداد زملائنا الغربيين لإطلاق حوار بنّاء بدل تطبيق تكتيكات معينة لتأخير الاستحقاقات والتعتيم على المعلومات، وفي هذا السياق، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إننا لا نطالب بأي شروط حصرية وخاصة لمصلحتنا، بل تهدف المبادرة الروسية الرامية إلى عقد اتفاقيات أمنية مُلزِمة قانوناً إلى ضمان أمنٍ متكافئ وجدير بالثقة لجميع الأطراف.