بقلم: د. علي الخشيبان – صحيفة “الرياض”
الشرق اليوم – مراكز التفكر في العالم ظهرت بشكل واضح منذ بدايات القرن العشرين، وتطورت بشكل لافت للنظر على المستوى الدولي في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، وتعد مؤسسة (راند) الأميركية أول مؤسسة يطلق عليها اسم مركز تفكير (Think Tanks) في خمسينات القرن الماضي، وتعد مراكز الفكر الأميركية الأكثر بروزا على المستوى الدولي وتحقق نتائج مميزة في التصنيفات العالمية لمراكز الفكر، وهذا نتيجة طبيعية للبيئة الفكرية والسياسية والحضارية التي سبقت بها أميركا الكثير من دول العالم، فحتى أوروبا نفسها لا تمتلك مؤسسات فكرية فاعلة كتلك الموجودة في أميركا.
أما في الشرق الأوسط فالقضية مختلفة تماما فمراكز الفكر ما زالت عالقة في قضايا جوهرية مهمة تتعلق بالتمويل والثقة والدعم والتدريب بالإضافة إلى قضية مهمة تتعلق بالانعتاق من قضية فهم الفروقات بين مراكز البحوث الأكاديمية ومراكز الفكر المعتمدة على فكرة الدفع نحو الانخراط في النقاش وتحديد الأولويات بمنهجية فكرية ناتجة عن تدوير التفكير بطرق مختلفة عن تلك المستخدمة في مراكز البحث الأكاديمي.
تاريخيا ظهرت مراكز الفكر في أعقاب أزمات دولية وهي تنتشر في معظم الدول حاليا، ولكنها ذات طبيعة مختلفة في كل دولة اعتمادا على طبيعة كل نظام سياسي، ولكن هذه الفكرة أصبحت اليوم تتطلب النظر إليها من جانب آخر، فالتعقيدات التي صاحبت العولمة وتعقد النظام العالمي وتداخلاته أصبحت تفرض منهجية مختلفة، فالدول مهما كان موقعها الجغرافي ومهما كان نظامها السياسي أصبح لزاما عليها أن تتحدث سياسيا بلغة مفهومة للكل وبمقاربات سياسية تعتمد كمنهجيات علمية وعملية، وهذا ما عزز الأسئلة حول الحالة السياسية وصحتها في كثير من الدول ومدى قدرة هذه الدول على مجابهة الأفكار بطرق ومنهجيات فكرية، وينقل عن مؤسسة كارنيجي قولها “يجب إرساء المؤسسات التي ستسمح بالتغيير السياسي الضروري عندما تبرز المشكلات ويحين وقت العمل”.
مراكز الفكر بطبيعتها لا تنجز المهام الحكومية في كل دول العالم، وإنما تقدم الكفاءات الفكرية والخيارات الفكرية المعتمدة على البحث والتحليل وفهم ثقافي متعدد الأطراف يستقي معرفته من كل أنحاء العالم بلا استثناء، فالعولمة وفرت اليوم هذه المهمة ولكنها في ذات الوقت ساهمت في كثافة التعقيدات في السياسة الدولية، وأصبحت الكثير من المؤسسات في الدول الشرق أوسطية والخليجية أيضا تنشئ مراكز التفكير، وبشكل تدريجي سوف يصبح الاعتماد على مراكز الفكر المحلية أمرا محتماً ومنتشرا خلال العقود القادمة حفاظا على الاستقلالية الذاتية للذهنية الثقافية الخاصة بكل مجتمع.
الكثير من مراكز الدراسات العالمية استثمرت – ولسنوات طويلة – فقر الكثير من الدول العالمية لمراكز التفكير فيها، ونفذت الكثير من المشروعات الفكرية والدراسات مدفوعة الثمن، ولكن لا يمكن الوثوق بشكل دائم في تلك المراكز، وأصبح لازما على الكثير من الدول الراغبة في تنافسية فكرية سياسية قوية أن تدعم ظهور مركز الفكر فيها كي تساعدها هذه المراكز على رؤية الأمور بطريقة مختلفة سياسيا، وكما قال الباحث الأميركي روبير بروستر: “إذا لم يكن لديك أفكار مميزة فلست مركز فكر، وإذا لم تحاول نشرها فإنك رسبت في جهدك لمساعدة المجتمع على أن يتقدم إلى الأمام”.
تؤكد الدراسات “أن مراكز الفكر تفكر مثل كل الناس، ولكنها هي من تساعد على إقامة الجسور بين مختلف أشكال المعرفة” وتعمل مراكز الفكر على تنظيم أفكار الباحثين والمفكرين لديها، وهي كما يقال – وسيط فعلي بين المعرفة والمقدرة – اليوم جميع الحكومات في العالم ودون استثناء أصبحت تحتاج المعلومات الواضحة والدقيقة؛ لأن تعقيدات المشهد العالمي أصبحت أكبر وتداخلات الدول ومشكلاتها وحدودها السياسية أصبحت أعمق في عالم يتجه إلى كثافة سكانية وأزمات حيوية لا تسعفها الحلول التقليدية للوصول إلى بر الحقيقة.
في عالمنا العربي ودولنا الخليجية على وجه الدقة هناك مسار فكري صاعد وبقوة يؤمن بأهمية مراكز الفكر ودورها السياسي العميق، فالدول جميعا أصبحت جزءا من تعقيدات هذا العالم والتفكير هو الوسيلة الوحيدة للبحث عن الحلول الفكرية الدقيقة، كما أن الدول أصبحت بحاجة إلى منتجاتها الفكرية المحلية بعيدا عن الاستشارات التي تقع فيها مصالح الدول في منطقة ضبابية في المنتصف بين تلك المراكز ومرجعياتها السياسية ودورها الاستشاري، في عالم اليوم وبكل تعقيداته لا بد وأن يتجه المجتمع بمؤسساته الحكومية والمدنية إلى إنشاء مراكز الفكر المحلية ودفعها نحو إقامة العلاقات وتوقيع الاتفاقات مع مراكز الفكر العالمية واستقطاب الباحثين والعمل على تحقيق أكبر الفوائد وتطوير مهاراتها وتقنياتها المعرفية.