الشرق اليوم- سيصادف العام المقبل مرور 50 عامًا على سفر الرئيس الأمريكي، ريتشارد نيكسون، إلى الصين للقاء رئيس الحزب الشيوعي الصيني ماو تسيدونغ، ورئيس الوزراء الصيني جو إنلاي، وكانت تلك خطوة كبيرة نحو استعادة العلاقات بعد عقود من القطيعة والعداء. وبعد مرور نصف قرن من الزمان، كاد هذان البلدان يفقدان ما أحرزاه من تقدم. ويتحمل الرئيس الأمريكي، جو بايدن، جزءا من المسؤولية في ذلك.
إن الاختلافات الأيديولوجية التي عرفتها العلاقات بين الولايات المتحدة والصين في عام 1972 واضحة تماما. بيد أن كلا الجانبين أدركا ما سيحققانه من مكاسب هائلة في حال حدث انفراج في العلاقات بينهما. إذ عن طريق عزلهما للاتحاد السوفياتي، عجلا بنهاية الحرب الباردة. ومن خلال تمكين الصين من تحويل تركيزها إلى التنمية الاقتصادية السلمية، عززا الرخاء العالمي لعقود لاحقة.
وبفضل وفرة القوى العاملة والأراضي، أصبحت الصين قوة تصنيعية، مما مكن الشركات الدولية من خفض تكاليف إنتاجها وتقديم سلع بأسعار معقولة للمستهلكين.ومع مرور الوقت، نمى الدخل الصيني، وبدأ الإنتاج المنخفض التكلفة في الانتقال إلى مكان آخر. ولكن التقدم الاقتصادي للصين، خاصة الطلب المتزايد من سوقها المحلي الهائل، استمر في إفادة بقية العالم.
وفي الواقع، أشار تشارلز غودهارت ومانوج برادان، أن الفضل في الاعتدال الكبير الذي شهده العالم، أي الفترة التي تراجع فيها تقلب الاقتصاد الكلي والتي استمرت من ثمانينيات القرن العشرين حتى عام 2007، يرجع إلى حد كبير إلى اندماج الصين في الاقتصاد العالمي. إذ حققت الولايات المتحدة مكاسب كبيرة من صعود الصين خلال تلك الفترة.
ولكن الولايات المتحدة ارتكبت أيضًا العديد من الأخطاء الاستراتيجية. إذ كانت نهاية الحرب الباردة فرصة غير مسبوقة للبلاد حتى تقوم بتحديث النظام العالمي ليتماشى مع عصر تحدده التحديات والمنافسات الجديدة. ولكن ريتشارد هاسأعرب عن أسفه إزاء إهدار الولايات المتحدة لتلك الفرصة، وتكريسها لنفسها ولميزانية تصل إلى 8 تريليونات دولار للحرب على الإرهاب التي كان بها خلل في التصميم، وكانت فاشلة من الناحية العملية.
وفي غضون ذلك، أخفقت الولايات المتحدة في التكيف مع الاقتصاد العالمي المتغير. إذ عندما فقد ملايين الأمريكيين وظائف في مجال التصنيع، ألقوا باللوم على التجارة، خاصة مع الصين، رغم أن التكنولوجيا كان لها دورأكبر بكثير في ذلك. وأدى انخفاض دخول الطبقة الوسطى وتزايد عدم المساواة إلى تفاقم السخط.
وأوصلت الأزمة المالية لعام 2008 هذه الإحباطات إلى أقصى حد. إذ إلى جانب تسليط الضوء على إخفاق الحكومة المطلق في إبقاء القطاع المالي تحت السيطرة، أظهرت الأزمة أن مكانة أمريكا على رأس النظام الاقتصادي العالمي لم يعد منيعًا. وفي حين سببت الولايات المتحدة الأزمة وعانت من الركود، لم يتراجع معدل النمو في الصين قَط إلى أقل من 6%، وساعدت حزمة التحفيز الضخمة لعام 2009 التي قدمتها البلاد في تعزيز الانتعاش العالمي من خلال رفع أسعار السلع الأساسية.
وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في عام 2016 من خلال استشعار مخاوف الناخبين وإحباطاتهم المتزايدة، ثم تأجيجها، وعن طريق تصوير فقدان التفوق الأمريكي على أنه تهديد وجودي تتحمل الصين مسؤوليته. ولكن بغض النظر عن “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، أدى ترامب إلى المزيد من التراجع لمكانة البلاد العالمية من خلال تخليه عن الالتزامات، وعزل الحلفاء، والفشل في ابتكار أي استراتيجية متماسكة لمواجهة التحديات المشتركة. وخير دليل على ذلك حربه التجارية العكسية مع الصين.
ومع ذلك، لم يكن ترامب الوحيد الذي يرى الصين على أنها تهديد رئيسي يجب احتواؤه. إذ أصبح هذا الأمر واضحًا في ظل إدارة بايدن التي، على الرغم من عكس العديد من سياسات ترامب الأخرى، حافظت على موقف متشدد تجاه الصين، بل إنها تحاول إنشاء تحالف من الديمقراطيات لاحتوائها.
وبعد أربع سنوات من رئاسىة ترامب المضطربة، أتيحت الفرصة لبايدن لهندسة إعادة الضبط، والمشاركة بصورة بناءة مع الصين، وكذلك مع روسيا، لمعرفة كيفية إدارة عالم متعدد الأقطاب. وبدلاً من استغلال تلك الفرصة، خلق شعورا بأن الدول قد تضطر إلى اختيار الطرف الذي ستنحاز إليه في التنافس بين الولايات المتحدة والصين.
ونظرًا لسمعة أمريكا العالمية المدمَّرة، قد يجد بايدن أن هذا النهج لا ينتج عنه نتيجة إيجابية تمامًا. إذ حتى القوى الأوروبية اتبعت نبرة أكثر ليونة تجاه الصين، التي تحافظ معها على روابط اقتصادية مهمة- وأعربت عن رغبتها في تجنب استراتيجية مفرطة في العسكرة.
وشاءت الولايات المتحدة أم كرهت، فإن النظام متعدد الأقطاب قائم بالفعل وله أوجه كثيرة. وكما تظهر الدراسات الأخيرة التي أجراها مركز بيلفر بجامعة هارفارد، فإن الصين تلحق بسرعة بالولايات المتحدة من حيث التكنولوجيا والقدرات العسكرية، على الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال رائدة في التمويل، والبحث، والتطوير، والتعليم، والوصول إلى المواهب العالمية.
وفضلا عن ذلك، على عكس ما حدث أثناء الحرب الباردة، تعد القوى العالمية الرائدة- خاصة الولايات المتحدة والصين- نظراء اقتصاديين. إذ أظهرت دراسة أجرتها مؤسسة RAND (راند) عام 1988، أن الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد السوفيتي بلغ ذروته عند 60٪ من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة في عام 1977. وبينما كان الاتحاد السوفيتي ينفق 15-17% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع- أي ما يعادل ثلاثة أضعاف حصة الولايات المتحدة- لم يتجاوز دخل الفرد فيه نصف نظيره في أمريكا.
وبالمقابل، تمثل الصين وروسيا معًا حوالي 77% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بالقيمة الحالية للدولار و137% قياسا بتعادل القوة الشرائية. وفضلا عن ذلك، فإن الولايات المتحدة مثقلة بالديون التي تزايدت لتصل إلى 29.2 تريليون دولار. وبحصة 122% من الناتج المحلي الإجمالي، تجاوزت نسبة الدين الأمريكي إلى الناتج المحلي الإجمالي، الآن، ذروة الحرب العالمية الثانية التي بلغت 119% من الناتج المحلي الإجمالي.
ولاحظ رجل الدولة الألماني، أوتو فون بسمارك، في القرن التاسع عشر، أنه في نظام عالمي تهيمن عليه خمس دول، من المستحسن دائمًا أن تكون جزءًا من مجموعة تتكون من ثلاث دول. وأشار وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، أن هذا يعني ضمناً أنه في النظام المكون من ثلاث دول، ينبغي للمرء أن يرغب في الانضمام إلى مجموعة تتكون من دولتين.
وبدلاً من أن تعزل الولايات المتحدة نفسها عن طريق تنفير روسيا والصين، ينبغي أن تتعامل معهما على قدم المساواة، ويجب أن تقوم بذلك على الفور لتوضيح القضايا الحساسة المتعلقة بالأراضي والحدود العازلة. ويجب أن تفهم الولايات المتحدة جيدًا سبب قلق روسيا الشديد بشأن انضمام أوكرانيا إلى الناتو، ولماذا لن تقبل الصين أي إعلان عن استقلال تايوان أو عسكرة القوى الأجنبية. لم تكن الولايات المتحدة لتتسامح مع الصواريخ السوفيتية في كوبا عام 1962، أليس كذلك؟