بقلم: عبد الاله بلقزيز – صحيفة الخليج
الشرق اليوم– انتقلت فكرة التفوق من بيئتها الأصل (أوروبا) إلى بيئة جديدة أوسع هي الغرب. وللانتقال هذا علاقة بفقدان أوروبا مركزيتها في العالم، التي كانت لها منذ القرن السادس عشر، وامتلاك الولايات المتحدة الأمريكية ذلك المركز منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. صحيح أن فكرة الغرب، نفسها، وُلدت في أوروبا منذ زمن طويل، وأن هذه ظلت تعد نفسها ذلك الغرب في مقابل شرق عثماني أو آسيوي، غير أن غربها (الأمريكي)، الذي “اكتشفته” وقذفت بفائضها السكاني إليه، في هجرات متعاقبة شجعت عليها، قبل قرون خمسة، استرق منها مركزيتها ودورها حتى صارت صيغتها الغربية مقترنة بوجودها في عالم يدور حول الفلك الأمريكي، وينشدّ إليه انشداد الأطراف إلى مركز.
أوروبا، لا غيرها، هي من ذهبت إلى حتفها الذي أفقدها مركزيتها حين أشعلت حربيها العالميتين الكبيرتين في النصف الأول من القرن العشرين. كانت تبغي في الحرب الأولى إنهاء دور تركيا وألمانيا وتحجيمهما إلى الحد الأقصى؛ وكانت تبغي، في الحرب الثانية إنهاء نفوذ ألمانيا في القارة وكسر قوتها. لكنها انتهت، بعد عام 1945، إلى إنهاء نفوذها ودورها في العالم، وكسر قوتها، والتمكين لصعود قوة الولايات المتحدة بديلاً عنها. بل لقد أتت النتيجة أسوأَ من ذلك بكثير: خسرت أوروبا، في مغامرة جنونها العسكري، سيادتها وقرارها المستقل فاقتُسِمت جزأين يخضع كل منهما لقوة عظمى جديدة: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وهكذا انقسمت أوروبا الغرب إلى غرب وشرق، فبات جزء منها خارج الغرب: هو أوروبا الشرقية الواقعة في فلك النفوذ السوفييتي.
قد تكون أوروبا دفعت أثمان أخطاء دولتين فيها أو ثلاث (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا)، فانتهت بها مغامرتها (الدول الثلاث) إلى فقدان مكانتها في العالم والانتقال، بالتبعة، من مركز لذلك العالم إلى أطراف تابعة لمركز جديد له في شمال القارة الأمريكية. ومن المثير أن البلدان الأوروبية الثلاثة تلك كانت هي، بالذات، موطن فكرة التفوق الأوروبي: في فكر مفكريها، وثقافة مجتمعاتها، وسياسات دولها. وكان من المفارقة، حقاً، أن تكون هي نفسها السبب في أن تتلقى فكرتها تلك ضربة موجعة، في خضم انفلات جنون القوة عندها، ليصبح التفوق بعدها غربياً لا أوروبياً. وليس يعنينا، هنا، ما تنطوي عليه عبارة التفوق الغربي من إبهام (مردّه إلى أن التفوق الغربي مجرد اسم حركي للتفوق الأمريكي، وأنه يساق لمحض الاستدخال الرمزي ل”حصة” أوروبا فيه)، بل يعنينا أن تنتبه – من الدرس الأوروبي – إلى أن الإفراط في إدمان عقيدة التفوق يقود، حتماً، إلى نقيضه التراجيدي.
وقد ورث الغرب الأمريكي عقيدة المركزية والتفوق من الغرب الأوروبي، في جملة ما ورثه منه من مواريث، وذهب وعيه في الانسكان بها إلى حدود قصوى سرعان ما كانت تفصح عنها سياساته بعد خطابه. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لا يكاد الغرب يتوقف عن البدوِّ بوصفه السيد الأعلى الكوني الذي يحدد للعالم معاييره: في السياسة والعلاقات الدولية؛ في الاقتصاد والتنمية والإنتاج؛ في الثقافة والاجتماع والقيم؛ في حقوق الإنسان؛ وفي الحرب والسلم… إلخ، وليس لأحد في العالم أن يخرج عن تلك المعايير أو يردها أو يطعن عليها؛ فهي، في مفهومه، كونية ومقدسة لا سبيل إلى العيش في الكوكب إلا بالسير على هديها. أما من جحد قيم الغرب وتمرّد فلن يلقى غير العقاب المبرح. هكذا صار على البشرية المعاصرة أن تعيش تبعات عقيدة التفوق والمركزية الغربية، وتتجرع سمومها باسم الكونية والشرعية الدولية، طائعة صاغرة .
ارتفع الشعور بالتفوق والمركزية في وعي الغرب وسياساته منذ حصل الانهيار العظيم للاتحاد السوفييتي والمعسكر «الاشتراكي». كان انتصاره في الحرب الباردة قرينة عنده على تفوق نموذجه كونياً، وعلى نجاحه في «إلحاق» الهزيمة بالنموذج «الاشتراكي». وعزز الاعتقادَ هذا لديه أن روسيا وبلدان شرق أوروبا التحقت بنموذجه، وباتت تحت سلطان إملاءاته. ومنذ سنوات التسعينيات من القرن الماضي، لم تتوقف سياسات الغرب عن إبداء أعلى أشكال الغطرسة والهيمنة والتسلط والاستعلاء تجاه دول وأمم وشعوب بعينها. ولم تكن العوامل الحاملة على ذلك عوامل مصلحية دائماً (فروسيا، مثلاً، لم تعد شيوعية ولا تقود معسكراً دولياً مناهضاً للغرب)، بل كانت – فوق ذلك – عوامل ثقافية (دينية وقومية وقيمية). وكان من الواضح أن البلدان الأكثر تمسكاً بمنظوماتها القيمية، وغير المسلمة ب”كونية” القيم الغربية، مثل الصين وروسيا وبلدان عالم الإسلام، عُدّت لدى الغرب عدوّاً نُظِر إليه باستعلاء وعنْجهية وإنكار، وقوبلت بسياسات عدوانية صريحة.