بقلم: جميل مطر – الخليج الإماراتية
الشرق اليوم- أتسلى هذه الأيام بمتابعة المساعي والجهود العديدة المبذولة لإشعال حرب باردة جديدة. أدرك جيداً أن التعبير، وأقصد إشعال، غير صحيح وغير مناسب، فالحرب الباردة باردة بحكم اسمها. حرب لا تشتعل. كثيراً ما تساءلت أنا وكثيرون خلال مراحل الدراسة وبدايات العمل الدبلوماسي في سنوات الخمسينيات والستينيات عن الحقيقة المختفية وراء هذا المفهوم. عرفناها حرباً تكلف الكثير من الأموال ولعلها أثمرت عن نجوم لامعة في كافة حقول السياسة الخارجية، الأكاديمية منها والعملية. نذكر جيداً تلك الأيام التي قضينا كطلاب، بعضاً منها مع أساتذة من مستوى بطرس غالي وسويلم العمري ومن مستوى العائدين لتوهم من الدراسة في الخارج مثل ابراهيم صقر وفتح الله الخطيب، نتأمل بالفحص والدراسة والحسد أحياناً إنجازات مبدعين ليس أقلهم شأناً نجم الدبلوماسية الحديثة جورج كينان سفير أمريكا في موسكو خلال السنوات الأخيرة من عقد الأربعينيات. أيام ممتعة عشتها على امتداد سنوات عملي في الدبلوماسية وبعدها في البحث العلمي والصحافة السياسية. كانت بدايتها في الجامعة ثم في فترة إعداد نفسي لامتحان التقدم للعمل في وزارة الخارجية ولم نفترق في الهند والصين وإيطاليا وشيلي والأرجنتين والجامعة مرة أخرى في كندا متتلمذاً مع صديقي علي الدين هلال على أيدي عمالقة مثل مايكل بريتشر، ومن هناك إلى مراكز البحث في القاهرة وغيرها. فترة ليست قصيرة قضيناها وشبح الحرب الباردة مطل علينا.
مرت سنوات بل عقود استعرت فيها الحرب الباردة، ثم سنوات أخرى أو عقود غابت في جانب كبير منها الحرب الباردة. كان لهذا الغياب فضل على تطور فهمنا للظروف التي تسهم أكثر من غيرها في نشوب الحرب الباردة وفوراتها العديدة. لاحظنا خلال هذا الغياب أن الطرف الأساسي في النظام الدولي القائم وهو الولايات المتحدة كان غارقاً في الاستمتاع بخروجه منتصراً من حربه الباردة مع الاتحاد السوفييتي. هذه الحرب التي انتهت بانفراط أحد طرفيها ولنقل زواله بمعنى أنه لم يعد يمثل أهمية أو تهديداً يذكر للولايات المتحدة وحلفائها. ساد الظن وقتها أنه لم يعد يوجد داع أو تبرير لوجود حلف الأطلسي وبخاصة بعد أن تدخلت الولايات المتحدة لتغيير طبيعة المكونات التي ساعدت روسيا على إقامة إمبراطوريتها وبناء قوة عسكرية هائلة. انهزمت روسيا فزال حلف وارسو من تلقاء نفسه. في الوقت ذاته كانت أمريكا تتقدم وبسرعة نحو فرض مكانتها كقوة عظمى وحيدة على قمة النظام الدولي. لا شك أنها استفادت من بعض ثمار الحرب الباردة مثل ثورة شعوب شرق أوروبا على الأوضاع الاقتصادية والسياسية، أوضاع متردية ناجمة عن عقود من هيمنة أنظمة حكم شمولية. من ناحية أخرى اكتشفت في استمرار وجود حلف الأطلسي، وإن عاطلاً عن العمل وعاجزاً عن وضع هدف، مصدر قوة إضافية لحماية الثورات الملونة والأنظمة الديمقراطية حديثة النشأة في كافة أنحاء شرق أوروبا ووسطها. من ناحية ثالثة وجدت في الاتحاد الأوروبي مصدراً آخر لتشجيع التحول من أنظمة اقتصادية وسياسية مقيدة إلى أنظمة تعتنق أفكار اقتصاد السوق.
الباحث عن أسس وأسباب نشوب الحرب الباردة من خلال متابعة تفاصيل العودة الأمريكية الراهنة إلى ممارسات الحرب الباردة، سوف يقابله عدد من المتغيرات، اخترت منها أهمها من وجهة نظري وهي:
أولاً: شعور جازم في مختلف أوساط الطبقة السياسية بأن أمريكا دخلت مرحلة انحدار منذ لحظة انفجار برجي نيويورك، وراحت وقتها تتدخل وبإهمال وبكفاءة متدنية في دول وأقاليم نامية. هذه التدخلات وبدون استثناء لم تسفر إلا عن أخطاء جسيمة شوهت سمعة قواها الصلبة كما الرخوة. لا شك أن هذا الشعور حين تفاقم أثار لديها الحاجة إلى الدخول في منافسة مع قوة أو قوى أخرى والاشتباك معها في علاقات متوترة.
ثانياً: كان من بين ما تدهور في أمريكا بنيتها التحتية، وهذه في حد ذاتها مكون للقوة هو أول ما يحس بنقصه أو تدهور حالته المواطن العادي. .
ثالثاً: في خلال ما لا يزيد على أعوام معدودة يثار في العواصم العالمية الكبيرة بما فيها لندن الشريك لأمريكا في مغامراتها الخارجية مجمل المآسي الناتجة عن أخطاء العسكرية الأمريكية خلال سنوات القطبية الأحادية. مرة أخرى تزداد حاجة الطبقة السياسية والمؤسسة العسكرية في أمريكا إلى ملهاة تلهي الرأي العام العالمي والأمريكي بخاصة فراحت تبحث عن عدو مقنع من بين اثنين روسيا والصين.
رابعاً: لم تتوقف الصين عن صعودها المنتظم نحو مكان في القمة الدولية منفرد أو مشارك. لا بد أن الحاجة إلى حرب باردة كانت ماسة وملحة إلى حد التضحية بإنجازات اقتصادية وتكنولوجية هائلة. نذكر كيف تعامل الرئيس ترامب مع قضية منشأ الفيروس المتسبب في الجائحة حتى جعلها سبباً كافياً لشن حرب باردة على الصين.
الحرب الباردة الجديدة التي تشنها أمريكا لن تكون نهايتها أو من ثمارها بالضرورة انفراط الصين والاتحاد الروسي. يستبعد الكثيرون، تدهور الحرب الباردة الراهنة إلى حرب ساخنة تقليدية، وإن كنت لا استبعد في مرحلة لاحقة اشتعال حروب صغيرة ساخنة بأدوات غير تقليدية وبخسائر بشرية بسيطة، حروب تشل الحياة الاقتصادية أو تدمر الإمكانات الفضائية أو تخلق واقعاً مختلفاً لتوازن القوة على هذا الكوكب.