بقلم: محمد خالد الأزعر – صحيفة “البيان”
الشرق اليوم – بسبب كثرة تبادل القصف الكلامي وتعبيرات الريبة وعدم الثقة والتهديد بتطبيق العقوبات، المصحوبة بشيء من الحراكات الرامية إلى بناء أنماط من التحالفات المتضادة، بين الولايات المتحدة والصين، ذهبت بعض أدبيات العلاقات الدولية إلى التساؤل عما إذا كان عالمنا بصدد حرب باردة جديدة بين هذين القطبين، على غرار النموذج الذي أفل قبل ثلاثين عاماً بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي؟
المشهد الدولي بعامة، وما به من تفاصيل موصولة بتحركات واشنطن وبكين بخاصة، يبرر طرح هذا السؤال.. غير أننا لا نبالغ كثيراً إذا ما اعتقدنا أن المشهد ذاته، ينطوي على معطيات تثير الشكوك في القطيعة التامة مع حالة الحرب الباردة الأولى، بصيغة أخرى، ثمة أوضاع تدعو للتأمل في احتمال ألا تكون هذه الحالة القياسية قد اندثرت كلياً.. منها بلا حصر، ما يدور من جدل صاخب بين روسيا والولايات المتحدة بشأن الأحوال على خطوط التماس في أوروبا وبخاصة في أوكرانيا.
مؤدى هذا التصور، أن الولايات المتحدة تكاد تنخرط في حربين باردتين، إحداهما قديمة تقليدية مع روسيا تذر بقرنها وذيولها مجدداً في مواضع وحول قضايا بعينها، والأخرى جديدة بازغة تتأكد معالمها بشكل زاحف مع الصين. وعملاً بفقه إدارة الصراعات، لا يحبذ معظم خبراء العلاقات الدولية الأمريكيين التصعيد مع كل من موسكو وبكين في الوقت ذاته. وعندما يحاول هؤلاء اختبار كيفية التعاطي مع هذين الخصمين، نراهم يميلون أكثر لجهة الحذر من «المارد الصيني»، بزعم الغموض الذي يكتنف ردود أفعاله وحدود تحركاته، وذلك على خلاف الخبرة المتراكمة مع الخصم الروسي.
ظاهر تصرفات إدارة جو بايدن الديمقراطية، يوحي بأنها تأخذ هذه الملاحظة بعين الاعتبار. ففي مستهل ولايته، أبرز بايدن خصومة واضحة تجاه السياسة الروسية، حتى أنه وصف الرئيس بوتين بالقاتل.. لكنه عدل نسبياً عن ذلك في وقت لاحق، ورأى أن روسيا لم تعد منافساً مباشراً لبلاده وإنما هي «لاعب ثانوي ومجرد عامل تخريب، مقارنة بالصعود المقلق للصين، التي تحاول التضييق علينا بشدة على الصعيد العالمي، وتمثل لنا تهديداً يصعب التنبؤ بأبعاده».
المعنى النظري المباشر لهذه المقولة، هو أن العقل الاستراتيجي الأمريكي يضع مواجهة التحدي الصيني المستجد على رأس أولوياته، ويصنفه في مرتبة متقدمة قياساً بالتحدي الروسي الكلاسيكي. بيد أن هذا العقل لا يبدو، من الناحية التطبيقية العملية، غافلاً عن حجم التلاقي والتعاون السياسي والعسكري بين الطرفين الروسي والصيني. ففي نوفمبر الماضي أعلنت مسؤولة، وصفت بالكبيرة، في وزارة الدفاع الأمريكية أن بلادها «ستكثف انتشارها العسكري في أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادي في مواجهة الصين وروسيا».
كأن الولايات المتحدة، والحال كذلك، لا تملك ترف التعامل مع خصومها ومنافسيها العالميين واحداً تلو الآخر، وفقاً لمتوالية تصوغها بنفسها.. وليس من المستبعد في هذا السياق تأثر السلوك الأمريكي بين يدي الحرب الباردة الراهنة بخبرات زمن الحرب الباردة الأولى إبان عنفوانها، وقت أن شهدت الساحة الدولية ما يشبه التعاقد الودي بين موسكو وبكين لدحر الوجود والنفوذ الأمريكيين في جنوب شرق آسيا، حيث لاوس وكمبوديا وفيتنام، فضلاً عن مطاردة هذا النفوذ والتنغيص عليه في رحاب الشرق الأوسط وأفريقيا، دون استثناء منظومة أمريكا اللاتينية، الموصوفة بالفناء الخلفي للولايات المتحدة. وعليه، فإن ذكريات الماضي القريب ومعطيات الواقع الراهن تضع واشنطن أمام فرضية تحملها عبئاً ثقيلاً، موجزها ضرورة الاستعداد والجهوزية لمواجهة أكثر من خصم قوي في وقت واحد.
تقديرنا أن هذه الفرضية التي تشير إلى أن عالمنا منقسم، أو مرشح للانقسام، بين موسكو وبكين وحلفائهما من ناحية، مقابل واشنطن وحلفائها من ناحية أخرى، تتأسس على تحليلات زمن الحرب الباردة الأولى.. حين كان التمايز والصراع الأيديولوجي وتوابعه بين الاشتراكية والرأسمالية على أشده. وهذا أمر لا محل له الآن من الإعراب. فموسكو وبكين وواشنطن ومحازبيهم ليسوا منخرطين في مثل هذا التمايز والصراع، ولا يسعى طرف منهم لفرض أسلوب حياته وأفكاره عنوة على الآخرين.
هذه القناعة تجعلنا جدلاً مطمئنين أكثر إلى أن الحرب الباردة، بمفهوميها القديم والجديد، ستبقى باردة، ومحاورها المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والتنافس على الثروة والمكانة والنفوذ.