بقلم: بابكر فيصل – موقع الحرة
الشرق اليوم- مرت في السابع من الشهر الماضي الذكرى الثامنة لرحيل المفكر المصري الكبير، المستشار محمد سعيد العشماوي، أحد رواد التنوير في القرن العشرين، وأول من صك مصطلح “الإسلام السياسي” في وصف الجماعات التي ترفع شعار الدين من أجل الوصول للسلطة.
العشماوي المولود عام 1932، تخرج في كلية الحقوق جامعة القاهرة، وقام بتدريس أصول الدين والشريعة والقانون بالعديد من الجامعات منها هارفارد وبرنستون بالولايات المتحدة الأميركية وأوبسالا بالسويد وتوبنجن بألمانيا والسوربون بفرنسا، كما تولى منصب رئيس محكمة استئناف القاهرة ورئيس محكمة أمن الدولة العليا.
بالإضافة إلى عمله كمستشار (قاض) والتدريس بالجامعات قام العشماوي بتأليف أكثر من 30 كتابا باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، من بينها أصول الشريعة، والإسلام السياسي، وجوهر الإسلام، والخلافة الإسلامية، والربا والفائدة في الإسلام، وحقيقة الحجاب وحجية الحديث.
تعرَّف كاتب هذه السطور على مؤلفات المستشار العشماوي في مطلع تسعينيات القرن الفائت، وكان بلد الكاتب (السودان) حينها واقعا تحت حكم جماعة الأخوان المسلمين، حيث شكلت تلك المؤلفات زاداَ فكريا عظيما في التصدي لشعارات وممارسات الجماعة التي كانت تعد الجماهير بإقامة فردوس السماء على الأرض.
ابتدء العشماوي كتاب “الإسلام السياسي” بعبارة دالة تبيِّن لماذا إختار أن يطلق تلك التسمية على التيار الذي ظل يعرف بإسم “الحركة الإسلامية المعاصرة”، فيقول: (أراد الله للإسلام أن يكون دينًا، وأراد به الناس أن يكون سياسة. والدين عام إنساني شامل. أما السياسة فهي قاصرة محدودة قبلية محلية ومؤقتة. وقصر الدين على السياسة قصر له على نطاق ضيق، وإقليم خاص، وجماعة معينة، ووقت بذاته).
وكانت تلك العبارة ترد على الذين رفعوا شعار “الإسلام دين ودولة” الذي قال به الفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري في كتابه “الخلافة الإسلامية”، ويرى العشماوي أن مزج الدين بالسياسة كانت له نتائج كارثية على كليهما، حيث صار التاريخ الإسلامي مسرحا للصراعات القبلية والمذهبية التي تتزيأ بلباس الدين وتبحث عن المشروعية بإسم الشريعة.
كذلك أدى استخدام الدين كوسيلة للسياسة، بحسب العشماوي، إلى ظهور واستمرار الاستبداد والطغيان المتكيء على شرعية السماء، حيث بات الخلفاء يعتبرون أنفسهم ظلالا لله على الأرض، وطفقوا يستميلون الفقهاء بالأموال والعطايا حتى يجد لهم الأخيرون المبررات لأفعالهم من داخل الشريعة.
ويقول العشماوي إن الدين أزلي وثابت بينما السياسة متغيرة بتغير الزمان والمكان، وأن حكومة الله لم ولن تتحقق إلا فى العهد النبوي من خلال الوحى الذى كان يتلقاه النبي، وقد استطاع أبو بكر وعمر أن يقتربا من فترة النبي، غير أن ما حدث بعدهما أن السياسة قد غلبت على الدين (وبدأ التاريخ الإسلامي منذ هذا الوقت وقد اصطبغ فيه الدين بالسياسة وتلونت فيه الشريعة بالتحزب).
ولهذا السبب فإنه يرى ضرورة الفصل بين الدين والسياسة حتى (تقوم الأعمال السياسية باعتبارها أعمال بشر ليسوا مقدسين، ولا معصومين، وأن الحكام مختارون من الشعب وليسوا معينين من الله).
ويعتبر العشماوي أن شعار “حاكمية الله” الذي ترفعه جماعات الإسلام السياسي شعارا زائفا لأن الله لا يحكم بنفسه بل وضع قيما عامة ومقاصد عليا وترك تفاصيل الشؤون المتعلقة بالحكم للبشر بوصفها أمورا دنيوية، وبالتالي فإن الخلافة عنده لا تعدو كونها صيغة موازية للدين وليست جزءا منه، وإلا فكيف يتم تبرير أعمال الخلفاء بإسم الدين وقد قام بعضهم بقصف الكعبة بالمنجنيق ؟
وهاهو يقول: (إن الخلافة الإسلامية ليست ركنا من أركان الإسلام ولا حكما من أحكام الشريعة، لكنها جزء من تاريخ الإسلام كان من الممكن أن يقع بصورته التي حدثت أو يقع بصورة أخرى مغايرة أو لا يقع أبدا، والخلط بين الإسلام والتاريخ خطأ فادح جعل البعض يعتقد خطأ أن الخلافة الإسلامية هي الإسلام ومن ثم ينظر إليها من منظور عاطفي ويحكم عليها بمعيار وجداني ويضفى عليها هالة من الأوهام وينسب إليها كل فضيلة ويرفع عنها كل زلل).
أما نظرته للجهاد فتتمثل في أنه لا يعني الهجوم على الآخرين من أجل إخضاعهم لحكم المسلمين، فالقرآن يتحدث عن جهاد الدفع الذي يعطي المشروعية للحرب الدفاعية، كما أنه يعتبر أن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر الذي ينادي به الإسلام حتى تسمو النفوس إلى المراقي العليا وينعكس ذلك على السلوك الفردي للمسلم.
ويعتبر العشماوي أن الإسلام السياسي ليس سوى تيار يستخدم الدين لضرب المجتمعات وتقويض الحكومات وهدم فكرة الوطنية والمواطنة لدى الناس باستغلال بريق الدين من خلال وضعه ضد الوطن والإسلام ضد المواطنين. فما دام الولاء للتنظيم والطاعة للمرشد فإن التنظيم يكون بديلا عن الوطن، ويكون المرشد (أو الأمير) عوضا عن أي نظام سياسي آخر.
وينفي المستشار العشماوي أن يكون الإسلام حكرا على جماعة أو تيار بعينه، ويقول في هذا الخصوص إن (الإسلام ليس دينا لجماعة ولا شريعة لأمة، لكنه دين مفتوح للكافة، وهو بهذا دين عالمي وشريعة إنسانية، يمكن أن يتأثر و يؤثر في المتغيرات الدولية على كافة الأصعدة).
ونتيجة لأفكاره التنويرية التي شكلت تهديدا حقيقيا لأفكار تيار الإسلام السياسي بمختلف إتجاهاته فقد قامت الجماعات المتشددة والتفكيرية بوضع إسمه في قوائم الاغتيالات التي طالت العديد من المفكرين المصريين في عقد التسعينيات من القرن الماضي، كما قامت المؤسسة الدينية الرسمية ممثلة في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف بمصادرة 5 من كتبه التي تم عرضها في معرض القاهرة للكتاب الدولي عام 1992.