افتتاحية صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – بغياب الأسقف الجنوب إفريقي ديزموند توتو يفقد العالم واحداً من رجال الدين الأفذاذ الذين تخطوا دورهم كرجال دين إلى أبعاد أكثر إنسانية وأخلاقية، حيث ربط بين مفهوم الدين والحرية والنضال ضد الاستعمار والاستبداد والعنصرية، وبذلك فهو أعطى للدين مفهومه الواسع في أن يكون في خدمة الإنسان والحقيقة المتجلية بالمحبة والتسامح والغفران من دون التنازل عن الحق الإنساني في الكرامة والحرية المطلقة.
لقد ناضل توتو من خارج السجن كما ناضل الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا من داخله ضد أعتى نظام عنصري، واستطاعا معاً أن يسجلا للتاريخ أنهما حققا انتصاراً لشعب جنوب إفريقيا ولشعوب القارة السمراء والعالم، وقد استحق أن ينال جائزة نوبل للسلام عام 1984.
ديزموند توتو كان صلب المعتقد وفياً للمبادئ التي يؤمن بها؛ إذ كان يرى في نظام الفصل العنصري آفة تهدد البشرية لا بد من اجتثاثها، ولا يمكن التعامل معها إلا بحزم، وهو يقول في هذا الخصوص: «إذا كنت محايداً في حالات الظلم فقد اخترت جانب الظالم». وكان يرفض أن يكون متسولاً للحرية بل قاتل من أجلها بقوله «أنا غير مهتم بالتقاط فتات الرحمة التي ألقيت من طاولة شخص يرى نفسه سيدي.. أنا أريد القائمة الكاملة للحرية والحقوق»، مؤكداً رفضه المطلق لمنطق الاستعباد الذي مورس ضد السود بقوله: «نرفض أن نعامل كممسحة تمسح الحكومة أرجلها عليها».
كان الأسقف الذي ابتدع شعار «أمة قوس قزح» في وصفه لشعب جنوب إفريقيا من البيض والسود، مؤمناً حقيقياً بالتعايش بين مختلف الأمم والشعوب مهما اختلفت في اللون والعرق والدين واللغة، وقد قاتل في سبيل ذلك، لأن «الغفران هو ضرورة مطلقة لاستمرار الوجود الإنساني» و«الأمل هو القدرة على رؤية أن هناك نوراً رغم كل الظلام» و«من دون مسامحة لا يوجد مستقبل».
لم يوفر الأسقف توتو رفاق دربه من النقد بعدما تولوا السلطة مع نهاية نظام الفصل العنصري، عندما وجد أنهم حادوا عن طريق الثورة، فشن هجمات لاذعة على قيادات حزب المؤتمر الوطني الذين اتهمهم بأنهم لم يقاوموا الفقر كما يجب، وأن قدراً كبيراً من الثروة والسلطة السياسية يتركز في أيدي نخبة سياسية سوداء جديدة.
وكما كان ينظر ديزموند توتو لظلم النظام العنصري في جنوب إفريقيا، فإنه كان يرى ظلماً مماثلاً يمارس بحق الشعب الفلسطيني بقوله «لا أستطيع أن أستوعب كيف يمكن لشعب عانى الأمرين كاليهود أن يمارس هذا الكم الهائل من المعاناة على الشعب الفلسطيني».
سوف يذكر التاريخ أن ديزموند توتو كان فعلاً يمثل ضمير أمة عرفت كيف تحقق إنسانيتها بفضل تضحيات رجال على مثاله ومثال مانديلا.