الرئيسية / مقالات رأي / الإصلاح.. المعجزة الغائبة في العراق

الإصلاح.. المعجزة الغائبة في العراق

بقلم: د. ماجد السامرائي – العرب اللندنية

الشرق اليوم- جدلية الإصلاح في العراق أصبح الحديث عنها أشبه بسيناريو لفيلم خيال علمي ينتهي تأثير إيقاعاته الرمزية بختام آخر مشهد درامي فيه. مع ذلك تبقى الحاجة إلى إعادته مجدداً لعّل بعض لقطاته تعلق في الواقع وتنبت أفكارا للتغيير.

سيظل توصيف حالة عراق ما بعد 2003 من قبل محبيه والحالمين بتحريره من الارتهان من مختطفيه وسجّانيه أشمل وأكثر رمزية من التفصيلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أما التفكير بفك طلاسم تلك التفصيلات ووضع العلاج لأمراضها التي اخترقت السطح إلى القلب المُهدّد بالتوقف، فتلك مهمة عسيرة لا نلوم القائلين باستحالتها في الوقت الراهن.

لسنا من بين المنحازين لا إلى فريق المحُبَطين القارئين بألم لواقع الظواهر المؤلمة المنتشرة على سطح الشبكة الاجتماعية العراقية التي تسود فيها معظم أمراض مجتمعات ما قبل العصر، إلى درجة أصبحت من المُسلّمات، ولا إلى المتفائلين الرومانسيين الحالمين بلا واقعية تُشّخص الظرف العراقي منذ 2003 وإلى حد اليوم، بقواه الضابطة والمًحرّكة للنظام السياسي، من دون رؤى وأدوات ووسائل مُبرمِجة للتغيير السلمي.

هناك معركة عميقة قائمة في العراق منذ عقود ما بين الجهل والتخلّف والاستبداد بكل أنواعه الاجتماعية والسياسية في أبرز مظاهرها السياسية في الحكم الدكتاتوري، وبين قوى التقدم والتطور والمدنية والديمقراطية، استطاع الاحتلال الأميركي وقواه الساندة تعطيلها وتحطيم ماكنتها المادية والمعنوية لأسباب ليست شكلية عابرة تتعلق بالسلبيات التي أحاطت بالنظام السابق الذي لم يكن متفرّداً بها في المنطقة، بل في إحلال قوى الإسلام السياسي الشيعي التابعة لولي الفقيه في طهران كحكام لهذا البلد.

لقد رافق مشروع إزاحة النظام السابق الحربي الاحتلالي استثمار وتعميم ظالم لأكذوبة امتلاك أسلحة الدمار الشامل، وتثبت حالة التسامح الحالي مع وصول طهران إلى عتبة امتلاك النووي أن قرار تدمير إنسان العراق كان الهدف الذي استفادت منه وتعاونت على تنفيذه ببشاعة جميع قوى الإقليم القلقة على ضياع مصالحها السياسية، أو المتحمسة إلى تنفيذ الصفحات اللاحقة  لتدمير هذا البلد في استحضار فصول تاريخ نفوذ انقرض.

تبنت القوى الإسلامية التي تجمعت في طهران ودمشق خلال الحرب العراقية – الإيرانية وتحمست لحالة الفوضى التي أشاعها الاحتلال الأميركي لتسهيل مشروع تدمير الإنسان العراقي بعد أن تشبعت بفايروسات الجهل والتشيّع الإيراني المؤدلج بنظرية الخميني لتصدير الثورة، ونفّذت مشروع تهديم مقومات الوحدة الاجتماعية للإنسان العراقي وقيمها وإزاحتها وإشاعة برامج الكراهية، لم تحمل هذه القوى ولم تقدم أو تنفذ بعد حكمها لثمانية عشر عاماً مشروعاً إصلاحياً أو برنامجاً بديلاً لنظام الاستبداد الذي حاربته على طريقتها في الانحياز إلى الطرف الإيراني في الحرب.

الإصلاح في برامج تلك القوى والأحزاب التي استثمرت الحكم وامكانياته هو تدمير الدولة العراقية، وطرد الكفاءات العلمية المتراكمة بإحلال الجهلة ومعوّقي الفكر عبر قانون الاجتثاث الذي شرّعه الحاكم الأميركي بول بريمر وتأسّف الآن كذباً وتهرباً من المسؤولية الأخلاقية على أنه أوكل تنفيذه خطأ إلى تلك الأحزاب.

لم تكترث قوى الإسلام السياسي الشيعي بحاجات الناس وحقوقهم في الحياة الآمنة، ولم تكترث بإقامة نظام سياسي ديمقراطي إصلاحي حقيقي إلا بفاصلة الانتخابات الضامنة لتدوير السلطة الحاكمة كما يُصرّحون اليوم بشعارات استهلاكية لا وجود لها في القاموس الديمقراطي كالوزن السياسي المقصود به وزن السلاح.

أغلق الفاسدون عيونهم عن رؤية حقوق المواطنين في جميع مفاصل الحكومة والبرلمان في ظل ظروف محلية وخارجية متردّية أُحبط من خلالها الإنسان العراقي. تم زرع مبادئ وتوجيهات ولاية الفقيه الإيرانية التي فتكت بالعقل والعاطفة وشوّهتها إلى درجة أصبحت فيها غالبية العراقيين مخلوقات عجيبة تندفع فيها العلاقات فيما بينهم من أجل المحافظة على أبسط مقومات الحياة، وعلى الفرد إتقان التعامل مع أساليب الخداع والمراوغة وفي بعض الأحيان التورط بالكذب والرشوة من أجل خبز اليوم وترك الحقيقة لحسابات المستقبل.

لم يُترك للعراقي خيار لاستمرار الحياة حتى النزوح إلى الخارج بأقسى الظروف أصبح مغامرة مستحيلة واللاجئون على حدود بلاروسيا أخيراً خير مثال على ذلك. دول الجوار العربي بنت أسيجة عالية لا تخترق ولا تتلاءم شكلاً مع خديعة حمايتهم للعرب السنة في العراق التي روّجتها الأحزاب الشيعية. دول أوروبا والولايات المتحدة أصبحت الإنسانية وحقوق الانسان فيها رواية لا تُقرأ حتى في مدارسهم، بل ذاكرة لدى الكهول والمتقاعدين. العالم الغربي غزته مقولة أن المُسلم العربي وغير العربي مخلوق همجي يحاكي ما تدّعيه النظرية الإيرانية سابقاً، إرهابي خطير يجب الحذر منه لتحصين المجتمعات الأوروبية الراقية. 

تجيب الولايات المتحدة والعالم الغربي الآن على سؤال من يتحمل مسؤولية ما حصل من دمار بالقول: على العراقيين الاستفادة من خيرات بلدهم في النفط كغيرهم من شعوب دول المنطقة النفطية التي تعيش برخاء، وأن يقننوا نظاماً إصلاحياً رشيداً مثلما عبّر عنه رئيس الجمهورية برهم صالح في أواخر أيام سلطته، لكن هذا العالم المنافق لا يكشف حقائق مهمة تدمير الإنسان العراقي والبنى التحية لدولته، ولا يفضح ملفات تهريب هؤلاء الحكام الفاسدين للمليارات والملايين لأنها تحرّك حسابات بنوكهم التي بدأت تتسرب وثائق أبطالها الإسلاميين.

وقائع تحدث في عراق اليوم الذي ينبغي أن يستحدثوا له اسما آخر يناسب مافيا الفساد والدجل، ويحفظ العراقيون هذا الاسم في ضمائرهم إلى حين، وقائع تجعل من شعارات الإصلاح معجزة في عالم لا تسيّره المعجزات، إلا إذا رافقت ذلك عملية تغيير جذرية في بنية النظام السياسي تجعل من الإصلاح مشروعاً واقعياً.

مسلسل تدمير الانسان في العراق يأخذ مظاهر مؤلمة متعددة في جانبيها الاقتصادي والاجتماعي. اقتصادياً عباقرة الاقتصاد المنهار خصوصاً خلال السنتين الأخيرتين يبرمجون التجويع بأساليب خبيثة تستهدف قوت العائلة العراقية والاقتطاع المالي مما يتقاضاه ويجنيه المواطن لتوفير الحدود الدنيا من سد رمق العيش عبر ما تسمى الورقة البيضاء لمصطفى الكاظمي في تخفيض قيمة الدينار العراقي، لكنهم لا يتحرشون بزعامات النهب والفساد.

لا يتردد وزير الصحة في حكومة الفساد عن إعلان فضيحة أن 50 في المئة من العراقيين يتعاطون المخدرات، أو أن 40 في المئة من العراقيين يقعون تحت خط الفقر.

التجويع وحده قادر على تدمير الشعوب لا ينقذها تاريخ عظيم وحضارة مدفونة تحت ظلال أشكالها المادية على الأرض أو داخل المتاحف. فكيف إذا ارتبط ذلك بتمرير خرافات وأساطير الجهل لمحو الذاكرة العراقية. في عراق الميليشيات والولاء العقائدي لإيران مثلاً يتم ترويج قصص غريبة لتسهيل مشروع التدمير. مثلاً في سامراء كعاصمة تاريخية للدولة العباسية التي يحقد عليها الفرس ويتمنون لو اقتلعوا من أرضها مرقد الإمامين علي الهادي وحسن العسكري ونقلوه إلى إيران، بدأوا بتنفيذ مشاريع إزاحة المعالم الأثرية عن طريق إقامة مشاريع استثمارية على أرضها، أو تسويق خرافة ضرورة اقتلاع الأثر العالمي ملوية سامراء بأكذوبة أن بعض رفات ذرية النسب الحسيني قبرت تحتها.

أي قانون همجي في عالم القرن الحادي والعشرين يفرض زواج القاصرات في بلد يدافع عنه الرئيس الأميركي جو بايدن ويصف نظامه بالديمقراطي الذي تجب حمايته. تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي أخيراً مشهداً يرمز إلى حالات شائعة لأدوار رجال الدين التي أصبحت بديلاً عن القوانين الرسمية، حيث يظهر معمم شيعي يرغم فتاة بعمر 12 سنة على قبول الزواج وهي تبكي رافضة ذلك. كذلك واقع العنف ضد المرأة والنسب العالية للطلاق وحالات الانتحار، تم ترويض بعض منظمات المجتمع المدني النسوية في بغداد للسكوت وقبول الأمر الواقع من خلال السماح لمسؤوليها باستلام أموال دول ومنظمات أجنبية تحت شعارات أغلبها كاذبة لدعم شؤون المرأة العراقية.

قصة التدمير في وجهه المادي الاقتصادي كارثية. بلد نفطي تُقدّر أموال شعبه المنهوبة منذ عام 2003 بقرابة 900 مليار كافية لبناء عدة دول خلال سنوات قليلة. البيانات الرسمية تقول إن 350 مليار دولار تم تهريبها وفق لجنة النزاهة العراقية، يعترف مسؤول آخر أن المجموع 500 مليار دولار. رئيسا الجمهورية والحكومة الحالية يعلنان عن سن قانون استرداد للأموال، لكنهما لم يتمكنا من اتخاذ قرار شجاع بإلقاء القبض على السراق من كبار المسؤولين.

أحدث تحذير قدمه الباحث الأميركي مايكل روين في معهد أمريكان أنتربرايز، نشره في مجلة ناشيونال أنترست، قال فيه “إن عجز العراق عن إجراء إصلاحات جوهرية في نظامه السياسي واقتصاده سينتهي بثورة شعبية عنيفة لا تفرق بين الأحزاب وستؤدي إلى الإطاحة بالقادة السياسيين الحاليين بالجملة إما إلى القبور مبكرا أو إلى المنفى”.

ما العمل؟ هل شعارات الإصلاح التي تبدو أكثرها قرباً إلى الواقعية مما يعرضه مقتدى الصدر ستحل مشكلة العراق؟

تبدو فكرة الإصلاح وشعاراته في ظل النظام السياسي القائم أقرب إلى المعجزة منها إلى مشروع لحل الأزمة الشاملة في هذا البلد.

إذا أردت قبول قصة الإصلاح في ظل حكم الطبقة السياسية الحالية في العراق فأنت تعيش في عالم المعجزات الافتراضي.


شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …