بقلم: أزراج عمر – النهار العربي
الشرق اليوم – تناقلت وسائل الإعلام الجزائرية، الأسبوع الماضي، خبراً مهماً جداً من الناحية السياسية، ولكنه مرّ من دون نقاش يذكر، وكان مضمونه أن السفارة الأميركية قد أطلقت مشروعاً لترميم ضريح الملك النوميدي الأمازيغي “إمدغاسن” الذي شيّد في القرن الثالث قبل الميلاد في محافظة باتنة. ويقال إن في جوار هذا الضريح 10 أضرحة أخرى مدفونة لم يُنفض الغبار عنها حتى الآن، وكلها تعود إلى فترة ما قبل الميلاد.
ويفيد الخبر بأن السفارة الأميركية رصدت لترميم هذا الضريح مبلغاً زهيداً قدره 175 ألف دولار، أي ما يساوي سعر شقة من غرفة واحدة يتيمة في أقصى جنوب بريطانيا. وتمّ التأكيد أن هذا المشروع يندرج في إطار شراكة مع وزارة الثقافة والفنون الجزائرية.
وهنا نتساءل: هل هناك غايات مبطنة من وراء تركيز السفارة الأميركية على التراث الأمازيغي بالضبط؟ ولماذا عجز أصحاب المليارات في القطاع الخاص الجزائري عن تمويل مثل هذا المشروع، وغيره من المشاريع التي علاها الغبار في مجال ترميم معالم التراث القديم والحديث والمعاصر، التي بدأت تتداعى ويدركها الخراب، كما يحدث مثلاً لآلاف البنايات الكلاسيكية الفرنسية التي تعدّ تحفاً معمارية رائعة ونادرة، تؤثث لجماليات المدن الجزائرية الكبرى والمتوسطة والصغرى؟ وماذا تريد الولايات المتحدة من وراء تنفيذ هذا النوع من المشاريع في الجزائر التي لا تربطها بها روابط التلاقح الحضاري المباشر عبر التاريخ، كما هو الشأن مع العثمانيين، والشام وفرنسا؟
فالقطاع الخاص الجزائري يملك المال، ولكنه يفتقد الثقافة والوازع الحضاري، ما جعله مجرد ظاهرة مقاولاتية صرفة. أما تركيز أميركا على التراث الأمازيغي فيدخل في إطار اختبارها قوتها الناعمة في الجزائر، من جهة، وفي الانفراد بتغطية الجزء المنسي من التاريخ الثقافي والحضاري الذي لا يحظى باهتمام فرنسا أو تركيا المعاصرة أو الشام في الشرق الأوسط.
وهنا ينبغي التوضيح أن المساعي الأميركية لفتح بوابات النفوذ في الجزائر اختلط فيها الدبلوماسي مع الاقتصادي والتعليمي، وحتى الأمني، ولقد ازدادت وتيرة هذه المساعي في السنوات الأخيرة، وبخاصة منذ أواخر فترة حكم الرئيس الراحل بوتفليقة، وهو ما نرصده الآن بسرعة.
ففي عهد دونالد ترامب، شهدت الجزائر زيارة وفد أميركي رسمي عالي المستوى، ترأسته وزيرة القوات الجوية باربرا باريت، وضم مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر وقائد القوات الجوية الأميركية في أوروبا وأفريقيا، الجنرال جيفري هاريجيان. وبدا من تخصصات أعضاء هذا الوفد أن هذه الزيارة غلب عليها الطابع الأمني والعسكري في الجوهر. وربما لهذا السبب لم تتسرّب حينذاك أي معلومة استثنائية عن تفاصيل مضمون المحادثات التي جرت بين هذا الوفد ووزير الخارجية الجزائري السابق صبري بوقادوم ومسؤولين كبار آخرين في المؤسسة العسكرية الجزائرية إلى وسائل الإعلام، ما عدا المعلومة الخاصة التي تفيد بأن ديفيد شينكر نفى أمام الوزير بوقادوم الشائعة التي يروّج لها من أن الولايات المتحدة باتت قاب قوسين من إقامة قاعدة عسكرية في غرب المنطقة المغاربية.
ولقد أجمع المراقبون السياسيون على أن هدف أميركا في الجزائر هو اختبار مدى جدية النظام الجزائري في المضي قدماً في التمسك بسياسات رفض أي وجود أجنبي في الفضاء المغاربي، بما في ذلك الأميركي الذي تعتبره الجزائر على مدى سنوات طويلة مساً مباشراً بأمنها الوطني، كما اعتادت النظر إلى أي تحرك عسكري أوروبي أو مقنّع بقناع الحلف الأطلسي في الجوار الأفريقي كتهديد لعمقها الاستراتيجي.
وفي الحقيقة، فإن الوقائع أظهرت أشكالاً متنوعة من التنسيق الأمني وتبادل الملفات والمعلومات بين أميركا والجزائر في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة على الأقل، وذلك في مجال حسّاس جداً ومثير للجدل، وهو مجال محاربة الإرهاب وتعقب تحركاته في العالم منذ تعرّض الولايات المتحدة للهجوم في 11 /09 / 2001.
هنا تنبغي الإشارة إلى معلومات تم تداولها في تلك الفترة بالذات، وأكد أصحابها أن صقور إدارة بوش وحلفاءه الأوروبيين الكبار قدموا مكافأة للرئيس بوتفليقة على تعاونه معهم أمنياً، وتقديراً لذلك ضغطوا على مسؤولي البنك الدولي، الأمر الذي سهّل عملية دفع الجزائر ديونها المستحقة والمقدرة حينذاك بمبلغ 30 مليار دولار أو أكثر بقليل، وذلك قبل انتهاء المدة القانونية الملزمة التي بموجبها كان يجب أن تلتزم بها الجزائر، فضلاً عن مواصلة دفع فوائد ضخمة لا تغطي إلا النزر القليل من المبلغ القاعدي للدين المذكور آنفاً.
بالإضافة إلى هذا التعاون الأمني بين مرحلة بوتفليقة والولايات المتحدة، فإن للشركات الأميركية وجوداً مادياً حقيقياً منذ سنوات في الجزائر، وذلك في مجالات عدة، وبخاصة في مجال النفط في الصحراء الجزائرية. وتقدر التقارير الاقتصادية المحايدة الصادرة في الجزائر وفي أوروبا، أن حجم التبادل التجاري الجزائري – الأميركي قفز من 15 مليار دولار عام 2006 إلى أكثر من 18 مليار دولار عام 2018، ولا يزال هذا الرقم يتصاعد بوتيرة ملحوظة حتى الآن.
ويلاحظ خبراء متخصصون في الاقتصاد الجزائري أن حجم التبادل التجاري الجزائري – الأميركي يفوق حجم التبادل التجاري بين الجزائر وجميع دول شمال أفريقيا، وبذلك يسقط قناع أسطورة التكامل الاقتصادي ضمن فضاء الاتحاد المغاربي أيضاً.
إلى جانب ما تقدم، فإن الإدارة الأميركية والحكومة الجزائرية قامتا، في عهد بوتفليقة، بتنسيق معتبر في ميدان التعليم العالي. وفي هذا الخصوص، كرّس الجهاز الدبلوماسي الأميركي في الجزائر هذا التنسيق، وعملت على تعميقه كاتبة الدولة الأميركية المسؤولة عن قطاع التعليم العالي الحيوي، ولقد شهد تطبيقاً حاسماً إثر توقيع وزير التعليم العالي الجزائري السابق الطاهر حجار مع الجانب الأميركي اتفاقيات رسمية في مختلف مجالات التعليم العالي، وفي المقدمة نقل الخبرات الأميركية إلى التعليم العالي الجزائري، ورفع عدد أعضاء البعثات الطلابية الجزائرية للدراسة في الجامعات الأميركية مقابل مبالغ معتبرة تدفعها الخزينة الجزائرية بالعملة الصعبة لها.
وفي إطار تفعيل أميركا سياسات قوتها الناعمة التي نظّر لها عدد معتبر من المفكرين السياسيين الاستراتيجيين الأميركيين، وفي مقدمتهم جوزيف ناي صاحب الكتاب الشهير “القوة الناعمة”، وطّدت وزارة الخارجية الأميركية نشاطات مركزها الثقافي، الأمر الذي حوّل الوجود الثقافي الأميركي في الجزائر حقيقة ملموسة، والغريب في الأمر هو أن مختلف وسائل الإعلام الجزائرية التابعة للقطاع العام أو للقطاع الخاص لا تتابع عن كثب تحركات هذا المركز ونشاطاته التي تنجز برعاية السفارة الأميركية.
وينبغي هنا توضيح مسألة مهمة، وتتمثل في عدم اكتفاء وزارة الخارجية الأميركية بمؤسسة المركز الثقافي في العاصمة الجزائرية فقط، بل إنها صارت تملك ثلاثة فروع أخرى في العمق الجغرافي الجزائري، وسمتها بــ”الفضاءات الأميركية”، وهي تنشط في محافظات جزائرية إستراتيجية هي قسنطينة في الشرق ووهران في الغرب الجزائري وورقلة في عمق الجنوب الجزائري.
ظاهرياً، لخّص البرنامج العام للمركز الثقافي الأميركي في الجزائر مهامه الأساسية في توفير “الموارد الثقافية والمعلومات داخل سفارة الولايات المتحدة في الجزائر العاصمة”، بهدف “تقديم أحدث المعلومات للجزائريين حول سياسة الولايات المتحدة، وتسهيل التفاهم المتبادل حول القضايا الاقتصادية والسياسية، والتجارية والثقافية والبيئية”، ولكن اعتماد هذا المركز أسلوب تشكيل وضبط نخب وشلل تابعة له عن طريق اشتراط العضوية الدائمة على الجزائريين الراغبين بحضور نشاطاته، والتواصل الدائم مع فعالياته المختلفة، بما في ذلك حفلات التعارف التي يقيمها في مناسبات معينة، يعني في المقام الأول جعل الأعضاء المنخرطين فيه جزءاً عضوياً من بنية المنظومة التي أوكلت إليها مهمة تنفيذ سياسات “القوة الناعمة” الأميركية على أرض الجزائر.