بقلم: د. عبد الله الردادي – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – حين أطلقت «نتفليكس» مسلسلها الشهير «لعبة الحبّار» هذا العام، رأى العالم صورة تختلف عن الصورة النمطية لكوريا الجنوبية وللشعب الكوري، فبينما تشتهر كوريا بصناعاتها التقنيّة التي غزت العالم، وبمسلسلاتها الدرامية وفِرَقِها الغنائية، أظهر المسلسل صورة أقل بهجة وأكثر قتامة من الألوان الفاقعة التي اشتهرت بها الفرق الغنائية الكورية. فأظهر المسلسل الأبراج الشاهقة من منظور الأحياء الفقيرة، وأصحاب الملابس الفاخرة كأنهم غرباء عن أبطال المسلسل. هذه النظرة أثارت سخط بعض الكوريين، واستغراب العالم، فهل هذه هي كوريا التي تسابق العالم بابتكاراتها ودخلت حياة الناس بمحتواها الترفيهي؟ أم أن المسلسل بالغ في سوداويته؟
لمعرفة كيف ظهرت كوريا الجنوبية بهذا الحال في المسلسل، ينبغي العودة إلى كوريا الجنوبية في خمسينات وستينات القرن الماضي، حيث كان نحو نصف الشعب الكوري يعيش تحت خطر الفقر، حينها غلبت الأميّة على أكثر من نصف المجتمع. ولكنّ كوريا تطورت وارتقت من النواحي الاجتماعية والاقتصادية في السبعينات والثمانينات بشكل سريع، مدعومةً بتعليم عام قاسٍ وصارم حتى كان بعض طلاب التعليم العام يبدأون يومهم الدراسي في الثامنة صباحاً ولا يعودون لمنازلهم إلا بعد العاشرة ليلاً. ونتيجة لهذا العمل الدؤوب، ارتفع معدل النمو السنوي للاقتصاد الكوري في هذين العقدين إلى نحو 7%. وبحلول 1996. دخلت كوريا ضمن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والتي شملت حينها 29 دولة من الدول ذات الاقتصادات المتقدمة. إلا أن هذا النمو المتسارع سبّب الكثير من الضغوط الاجتماعية على الكوريين برغبتهم في اللحاق بركب التحضّر والتمدن حتى لو كان بالاستدانة، مما زاد الديون بشكل كبير بين الكوريين، وعزز من ثقافة الاستدانة الاستهلاكية في المجتمع الكوري.
وفي عام 1997 هزّت الأزمة الآسيوية الاقتصاد الكوري بشكل عنيف وكانت نقطة تحول في أداء الاقتصاد الكوري، فمنذ ذلك اليوم إلى هذا الوقت ونمو الاقتصاد الكوري في انخفاض مستمر، حيث انخفض في بداية الألفية إلى 5%، وبعد 2010 إلى نحو 3.7%، ليصل إلى نحو 2.8% قبل الجائحة. أي أن نمو الاقتصاد الكوري انخفض بمعدل 1% كل خمس سنوات منذ الأزمة الآسيوية. ومع هذه الأزمات، ومع انخفاض خلق الوظائف بسبب التباطؤ الاقتصادي، تحول الكثير من الكوريين إلى الأعمال الحرة، والتي –بحكم ارتفاع معدل خطرها– لم تُموّل من البنوك على شكل قروض استثمارية، بل على شكل قروض شخصية. وتعد كوريا إحدى كبرى الدول في عدد العاملين في الأعمال الحرة، حيث يعمل واحد من كل أربعة كوريين في الأعمال الحرة، والعاملون في الأعمال الحرة –كما برهنت الجائحة– هم الأكثر تأثراً بالتقلبات الاقتصادية.
ومع زيادة العاملين في الأعمال الحرة، واعتماد كثير منهم على القروض، استمر معدل الديون في كوريا في الازدياد منذ عام 2000 ليصل الآن إلى 1.5 تريليون دولار، وهو رقم قريب بشكل مخيف من الناتج القومي الكوري الذي يبلغ 1.6 تريليون دولار. ووصل الأمر بالكثير ممن استدانوا إلى عدم قدرتهم على سداد ديونهم، حتى لو دفعوا كل قرش يكسبونه. ومع التقلبات الاقتصادية كثرت حالات إعلان الإفلاس الشخصية، حيث تعدت هذه الحالات الخمسين ألفاً العام الماضي. وثقافة الفشل تختلف عند الكوريين عن غيرهم من الشعوب، فبينما يرى الأميركيون أن الفشل بداية النجاح، تصعب العودة من الفشل عند الكوريين، ويصعب على من يفشل أن يخرج من وصمة الفشل. ولذلك فإن هذه التقلبات الاقتصادية والضغوط المالية لدى الكثيرين أدت إلى زيادة الانتحار عند الشعب الكوري، وقد وصل عدد حالات الانتحار في كوريا إلى 33.8 حالة لكل 100 ألف شخص عام 2009، أي ثلاثة أضعاف متوسط دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وانخفض هذا الرقم إلى 24.7 العام الماضي، إلا أنه لا يزال أكثر من ضعفي المتوسط! وفي سبتمبر (أيلول) الماضي أبّن الشعب الكوري 22 من ملّاك الشركات الصغيرة الذين انتحروا خلال الجائحة بسبب الضغوطات المالية التي سببتها الجائحة.
ولا يبدو أن الحكومة الكورية لديها القدرة على حل مشكلات الديون لدى الشعب الكوري، لا برفع سعر الفائدة ولا بخفضها ولا بأي من الحلول الأخرى. بل إن الحكومة الكورية تعد إحدى أقل الدول التي تُنفق على مشاريع التنمية الاجتماعية، حيث تُنفق أقل من 11% من ناتجها القومي على هذه المشاريع، ولا يوجد أقل منها من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلا تركيا والمكسيك وتشيلي! أي أن هذا الوضع قد لا يتغير كثيراً في المستقبل القريب.
إن الصورة القاتمة التي أظهرها مسلسل «لعبة الحبار» ليست صورة مبالغاً فيها، ولجوء المتسابقين في المسلسل إلى لعبة تعطيهم فرصة الثراء حتى لو على حساب حياتهم هي رسم سوداوي لمعاناة الكثير من الكوريين، ولكنه لا يخلو من صحة. والحكومة الكورية وإن نالت الثناء على اهتمامها بالصناعات والابتكار والإنفاق على البحث والتطوير في الكثير من التقارير الدولية، إلا أنها لم تعطِ التنمية الاجتماعية اهتماماً يليق بها، حتى وصل الحال ببعض الكوريين إلى اللجوء إلى الانتحار، أو إلى لعبة الحبّار!