بقلم: حميد الكفائي – سكاي نيوز
الشرق اليوم- يقول علماء النفس والاجتماع إن الحزن يترك تأثيرات مدمرة على شخصية الفرد ويجعله يائسا وتعيسا وخاملا ومتشائما وغير منتج.
وحسب نظرية التوازن للعالم النمساوي فريتز هايدر، فإن الإنسان بطبيعته يسعى دائما إلى التخلص من الضغوط النفسية من خلال تغيير مواقفه وتبني مواقف تجعله سعيدا او تحقق له طموحاتِه ومصالحَه.
وإن كان المرء لا يستطيع أن يفعل ما يسعِده، لوجود عقبات أو معارضة في المجتمع، فإنه سيشعر بالتعاسة، وإن تراكمت التعاسة والإحباط، فسوف يلجأ المرء إلى ممارسة أفعال أخرى لتخفيف الضغوط النفسية عنه، لكن الأفعال قد تكون ضارة، وربما متطرفة أو متعارضة مع التقاليد السائدة.
طابع الحزن هو السائد في العراق، وهو ممتد ويزداد حدة بمرور السنين، ويعتبر من أبرز الصفات التي تميز العراقيين، بل أصبح الوضع الطبيعي الذي اعتاد عليه العراقيون في السنوات الأخيرة، وكل ما عداه استثنائي وطارئ، ويحتاج إلى استعدادات نفسية وتحضيرات مسبقة، وربما مغامرات وتضحيات.
لقد أصبح الناس يخشون الفرح والسعادة، وطالما تسمع البعض يتعوذ الله من الشيطان عندما تكون هناك أحداث مفرحة، أو حتى مُزح مبهجة، ويردد (الله الساتر مما سيحصل لنا)! وكأن الله جل وعلا يعاقب الإنسان على السعادة والبهجة.
ويتضح طابع الحزن كثيرا في الشعر والأغاني الحزينة في غالبها، وأشهر الأغاني العراقية هي تلك التي تتغنى بالحزن وتصف المآسي.
ويقول الشاعر الشعبي الراحل، كاظم إسماعيل كاطع، في إحدى قصائده التي يغنيها مطربون كثيرون في العراق (منو يقدر يشيل الحزن عني. ويخليني بفرح للناس أغني. تعلمت الحزن من أمي والناس. من لولت علي يالولد يابني)! وفي قصيدة أخرى يقول (سن الماضحك بالعيد، تريده بالطبك يضحك)! و(الطبك) هنا هو التعبير العامي العراقي عن يوم عاشوراء.
بينما يقول المطرب قحطان العطار في إحدى أغانيه (يقولون غني بفرح وأنا الهموم غناي)! أما المطربون المبدعون مثل كاظم الساهر وماجد المهندس وإلهام المدفعي فقد غادروا العراق وأقاموا في بلدان أخرى تقيِّم فنهم.
وعندما تعرض المطرب حسين نعمة للانتقاد بأن كل أغانيه حزينة، غنى أغنية بهيجة واحدة عنوانها (قوم انثر الهيل) وكانت مرتبكة المعنى، فالهيل لا يُنثر في العادة، كما تُنثر الحلوى في المناسبات السعيدة مثلا، وإنما يوضع مع الشاي والقهوة وبعض الأطباق!
العراق هو بلد الشعر دون منازع، وعدد الشعراء أصبح يفوق عدد أي شريحة أخرى في المجتمع، فمن لا يجيد الشعر الفصيح، يلجأ إلى الشعر العامي، أو الشعر الشعبي كما يسمى في العراق، وكثيرون يدَّعون الشاعرية، أو يلجئون إلى الشعر عند الشدائد، وما أكثرها، رغم غياب الموهبة الشعرية لديهم. ومعظم أسباب وأغراض الشعر هي الأحزان والمآسي والحرمان وفقدان الحبيب وغدر الزمان.
معظم المناسبات العامة في العراق حزينة، باستثناء المولد النبوي، الذي يُحتفل به في نطاق محدود، وفي يوم واحد فقط بسبب طابع الحزن السائد في البلد. وتكاد المناسبات الحزينة تتوزع على كل أشهر السنة، بل هناك شهران، هما محرم وصفر، مكرّسان للحزن فقط!
وحتى شهر رمضان الذي كان شهرا للأفراح والبهجة والاحتفالات والمسابقات الشعبية المُسلِّية، ويختتم بعيد الفطر البهيج، أصبح هذه الأيام شهرا للأحزان، يحييه الخطباء والنُعاة، إذ أصبح كثيرون يأتون بخطيب يذكِّرهم بالموت وعذاب القبر ومآسي الماضي وكوارثه! بل أخذ الإرهابيون والمجرمون يستغلون أجواءه كي ينقضوا على الناس الأبرياء ويقتلونهم كما حصل في معظم الأعياد خلال السنوات العشرين الماضية، وكان أبرزها مجزرة الكرادة عام 2016 التي راح ضحيتها مئات الشباب المحتفلين بمقدم عيد الفطر.
قرأت قبل سنوات كتاب (الملحمة الحسينية) بثلاثة أجزاء، للشيخ مرتضى مطهري، والذي أهداني إياه عالم الاجتماع العراقي الدكتور إبراهيم الحيدري، له العمر المديد، واطلعت من خلاله على قصص عجيبة وكيف يتبارى الخطباء في إطلاق المبالغات لاستدرار عواطف الناس، مع علمهم بأنها أكاذيب.
وعندما سُئل أحدهم، لماذا تزيد من جرعة المبالغات التي تخالف ما قلته في مناسبات سابقة، أجاب بأن الأحداث المألوفة لا تؤثر في الناس، لذلك نلجأ إلى رفع منسوب الغرائبية كي تكون مؤثرة!
معظم الأحزان والمآتم في العراق تتخذ طابعا دينيا كي تكون ملزِمة للجميع، وكي لا يتجاوزها من يجرأون على المغامرة بالسعادة والبهجة والتفاؤل. أما المناسبات السعيدة، كالأعراس والخطوبة والختان والتخرج، فهي خاصة ومحدودة، ولا تجري عادة في أيام الحزن أو أسابيعه وأشهره، وهي كثيرة وتمتد على مدار العام، لذلك يتوجب على من يرغب أن يقيم احتفالا في مناسبة خاصة، أن يتعرف على مواعيد المناسبات الحزينة كي يتجنبها. على سبيل المثال، لا يجرؤ أحد أن يتزوج في شهري محرم وصفر لأنه سيخالف السائد في المجتمع، وإن اضطر إلى ذلك، فعليه أن يتزوج سرا ودون احتفال.
وحتى في مناسبات الأفراح التي تقام في الأيام العادية خارج أيام وأشهر الحزن، فإن مقيميها يحْذرون من الاستغراق في الفرح، كي يتجنبوا احتجاجات أباطرة الحزن، وإن فعلوا، فإن ذلك لا يمتد إلا لساعات قلائل. بل هناك من يأتون بخطيب في مناسباتهم السعيدة كي يلقي خطبة لتبيان فضائل الزواج مثلا، وكأنها مجهولة، وتذكيرهم بتقصيرهم ومعاصيهم وعذاب الآخرة الذي ينتظرهم، وبذلك تتغير الأجواء من الجذل والسعادة إلى الجد والتفكير بمصير الإنسان وعواقب الاستمتاع بالحياة الفانية!
لا توجد مناسبات عامة سعيدة، إلا تلك التي كانت تفرض على الناس سابقا، مثل ذكرى انقلاب 17 تموز الذي أوصل صدام حسين إلى السلطة، و7 نيسان، ذكرى تأسيس حزب البعث، ثم أضيف إليهما في الثمانينيات عيد ميلاد الرئيس في 28 نيسان، وهذه (الأعياد) لا يكترث لها عموم الناس ولا يشاركون فيها إلا مضطرين.
ومن أغرب العادات في العراق هذه الأيام هي الإصرار على الحزن والتمسك به والإيغال في تأجيجه، وإحياء كل المناسبات المتصلة به، واختلاق المزيد منها إن أمكن، حتى أصبح الفرح غريبا ونادرا، وأخذ المسيحيون العراقيون يلغون أعيادهم الدينية إن تزامنت مع المناسبات الشيعية الحزينة التي لا حصر لها، خصوصا بعد أن هاجمهم رجل دين شيعي يتولى منصبا رفيعا بأنهم (يرتكبون الفظائع والرذائل) في احتفالات عيد الميلاد، الذي قال إنه يحل في الأول من يناير!
بينما أفتى رجل دين آخر، عيّن نفسه في منصب لا وجود له، وهو مفتي الجمهورية، (بحرمة تهنئة المسيحيين في أعياد الميلاد)! ولم يُحاسَب هذان الشخصان، لا من قبل الحكومة ولا من مراجعهما الرسمية أو الدينية، رغم أن أقوالهما تعتبر تحريضا على الكراهية والعنف!
كما دأب السياسيون والمتنفذون المتشدقون بالدين على الاحتجاج على الأفراح والاحتفالات والمطالبة بمنعها باعتبارها مخالفة للشرع، على اعتبار أن الموسيقى والغناء حرام في نظرهم. وقد مُنعت الكثير من المهرجانات الموسيقية والفنية وحفلات افتتاح المشاريع أو التخرج من الجامعة أو المناسبات الرسمية والمباريات الرياضية بهذه الذرائع، خصوصا بعد احتجاج المتشدقين بالدين على الاحتفال بافتتاح ملعب كربلاء، الذي تخلله عزف موسيقي أدته العازفة اللبنانية المعروفة، جويل سعادة.
ومن الذرائع التي تساق لتبرير منع الاحتفالات هي أنها مخالفة لـ”تقاليد وأعراف الشعب العراقي وقيمه الدينية والأخلاقية”! وكأن الشعب العراقي كتلةٌ صوّانية واحدة، وليس شعبا متنوع الأذواق والثقافات والأديان والأعراق والمشارب. لقد نصَّب أباطرة الحزن أنفسهم ممثلين عن الشعب، علما أن معظم العراقيين، خصوصا الشباب، يرفضون نهجهم وممارساتهم. وبسبب غطرستهم وتعسفهم، أصبحت الهجرة إلى الخارج حلما يراود معظم الشباب، من أجل أن يعيشوا حياة طبيعية.
والأغرب أن الاحتجاج على الفرح والسعادة والحفلات الموسيقية والغنائية أصبح أمرا أخلاقيا يتباهى به الساعون إلى تسجيل مواقف دينية وأخلاقية، وأصبحوا يفتخرون بإعلان مواقفهم هذه، بل إن أحد الزعماء (أو الذوعماء)، أعلن بفخر أنه لا يستمع إلى الأغاني ولا علاقة له بالموسيقى مطلقا! بينما أجاب آخر على سؤال في مقابلة تلفزيونية أجريت معه يوم تنصيبه رئيسا للوزراء، حول تجهم وجهه وعبوسه الدائم بأنه (ليس هناك ما يدعو إلى الابتسام والسعادة في العراق)!
لا شك أن هناك أحداثا وكوارث ومآسيَ حصلت في العراق عبر التأريخ، جعلت الناس يلجأون إلى الحزن والابتعاد عن الفرح، ومنها الحروب المتواصلة التي عاناها العراق، والقمع والسجون والإعدامات التي مارستها الأنظمة المتعاقبة، والعادات القبلية والدينية التي تدعو إلى التجمُّد في الماضي، إضافة إلى الفقر والبؤس والشقاء التي عاناها الفلاحون، الذين شكلوا غالبية المجتمع في القرن العشرين، في ظل سيطرة الإقطاع والظلم الذي مارسه عليهم، والإهمال الذي طال مناطقهم في مجالات التعليم والصحة والخدمات، وأخيرا انتشار الجماعات المسلحة المتشدقة بالدين، والتابعة لدولة أخرى، والتي لا تتردد في القتل والخطف والنهب وإذلال الناس في ظل ضعف الحكومات المتعاقبة.
لكن هذا المأزق يمكن الخروج منه عبر التنمية الاقتصادية المستدامة وتفعيل القانون بحيث يحمي الأفراد الذين يبتغون أن يمارسوا حرياتهم الشخصية والعامة دون خوف، وعبر نشر المعرفة وتفعيل دور وزارة الثقافة. الدولة العصرية تنتصر للأفراد والأقليات، وتنتزع حقوقهم وتحمي حرياتهم، وتلتزم مبدأ المساواة أمام القانون، ولا تجاري رغبات الأقوياء وأمزجتهم ومصالحهم السياسية القصيرة الأمد.
السلوكيات والعادات المتنوعة، وأنماط الحياة الحرة المحصنة بالقانون، تعزز الحيوية في المجتمع، وتشجع الإبداع وتنمّي الاقتصاد، وتزيد الثراء، وتشيع السعادة والوئام والتسامح، وتقلص العنف، وتقضي على التعصب والجهل والتخلف.
هناك مقولة بليغة ذات علاقة للأديب الأميركي الشهير، مارك توين، فحواها أن (هناك من يريد أن يوهمنا بأن البقاء في الحفرة فضيلة وثبات على المبادئ، وأن التسلق خارج الحفرة هو تذبذب ورذيلة).
فعندما يجد المرء نفسه في ورطة أو (حفرة) عليه أن يسعى للخروج منها كي يعيش حياة سعيدة مثمرة، فليس صحيحا أن الأديان تريد منا أن نعيش تعساء متعصبين ومتنافرين، وما يُقدَّم لنا على أنه قيمٌ دينية وأخلاقية، هو في الحقيقة ممارسات نمت بسبب اليأس والفشل والتراجع والقمع والنكوص، ويجب الخلاص منها وإزالة مسبباتها في أول فرصة. وهذا الخلاص لن يحصل دون عمل دؤوب يضطلع به الخبراء المخلصون، ويدعمهم الشباب التائق لحياة حرة سعيدة.