بقلم: محمد السعيد إدريس – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- فاقمت مجموعة القرارات الجديدة التي أصدرها الرئيس التونسي قيس سعيّد من الانقسام السياسي المحتدم في تونس منذ إصداره قراراته الثلاثة الشهيرة يوم 25 يوليو/ تموز الماضي التي جمدت التجربة البرلمانية، وركزت السلطة التنفيذية في يده بمعاونة حكومة تكون مسؤولة أمامه بعد إقالة حكومة هشام المشيشي حليف “حركة النهضة” الإخوانية.
ففي الثالث عشر من ديسمبر/ كانون الأول الجاري أعلن الرئيس التونسي ما يمكن اعتباره “خريطة الطريق” المنتظرة منذ قرارات يوليو/ تموز الماضي، لأنها تضمنت معالم الإصلاح السياسي كما يراه الرئيس سعيّد في النظامين السياسي والانتخابي. فقد أعلن أنه سيدعو إلى استفتاء دستوري في يوليو/ تموز المقبل، وأن الانتخابات التشريعية ستتم وفقاً للدستور الجديد يوم 17 ديسمبر/ كانون أول من العام المقبل في ذكرى تفجر الثورة التونسية. هذا يعني أن البرلمان سيظل مجمداً لحين انتخاب البرلمان الجديد بقانون انتخابي جديد ووفقاً للدستور الجديد يتلافى كل التعقيدات التي تضمنها دستور عام 2014 الذي يراه سعيّد أصل الأزمة السياسية التي استحكمت بتونس وأدت إلى تفريغ الثورة التونسية من مضامينها وأهدافها.
وأعلن الرئيس ضمن قراراته تلك أنه سيشكل لجنة خبراء لصياغة الدستور الجديد، كما أعلن تنظيم “استشارة شعبية” بداية من شهر يناير/ كانون الثاني المقبل؛ هدفها تجميع استشارات مباشرة من الشعب التونسي في كل منطقة تكون أساساً للصياغة الدستورية الجديدة على أن تنتهي تلك الاستشارات في 20 مارس/ آذار القادم، أي أن هذه الاستشارات ستكون بمثابة “حوار وطني واسع” تشارك فيه القوى الشعبية في كافة المناطق. ولم ينس أن يؤكد التوجه لمحاكمة “كل الذين أجرموا في حق الدولة التونسية وشعبها”، كما دعا أيضاً القضاء إلى “أن يقوم بوظيفته في إطار الحياد التام”.
بخريطة الطريق هذه، يكون الرئيس التونسي قد وضع حداً للغموض الذي ظل يطغى على حقيقة التوجه السياسي الذي يريده. ففي التاسع والعشرين من سبتمبر/ أيلول عين الرئيس سعيّد الدكتورة نجلاء بودين الأكاديمية التربوية رئيسة للحكومة التونسية، وهو المطلب الذي ظل يتردد داخل تونس وفي كثير من المحافل الدولية خاصة التمويلية منها التي كانت تشترط تعيين حكومة تتولى إدارة الدولة كي تتعامل مالياً مع المطالب التونسية. وبهذه القرارات الجديدة يكون الرئيس التونسي قد استكمل “أجندة الإصلاح” أو “خريطة الطريق” المأمولة، لكن ذلك التوجه لم يؤثر كثيراً في مواقف الأطراف التي تضررت من إجراءات الرئيس سعيَد منذ أن جمد البرلمان ورفع الحصانة عن كل أعضائه، وأعطى لنفسه حق ممارسة السلطة التنفيذية. فقد جاءت مواقف الأحزاب والقوى السياسية متباينة من خريطة الطريق هذه بين الترحيب والحذر والرفض المطلق.
جوهر الانقسام حول قرارات الرئيس التونسي يتعلق بالرؤية التي يريدها للدستور بالتحول نحو النظام الرئاسي بدلاً من النظام البرلماني خشية العودة مجدداً إلى “عصر استبدادي” جديد شبيه بنظام الرئيس بن علي. فبسبب الخوف من عودة الاستبدادية مجدداً إلى تونس بعد ثورة 2011 الشعبية أوغل المشرعون الجدد الذين صاغوا دستور عام 2014 في تهميش دور رئيس الجمهورية في نظام الحكم وتكريس السلطة في يد البرلمان والحكومة، فجاء الدستور غير متوازن، وهذا ما يراه الرئيس سعيَد سبباً في الفشل والتدهور والفساد الذي عاشته تونس على مدار عشر سنوات من ثورتها، وهذا أيضاً ما يريد تلافيه بوضع دستور جديد يحقق التوازن بين السلطات الثلاث ويعيد لرئيس الجمهورية مكانته ويحول دون تفشي الفساد في النظام السياسي.
القوى المعارضة لقرارات الرئيس ولخريطة الطريق الجيدة تخشى أن يفرض الرئيس دستوراً جديداً غير متوازن لصالح الرئيس وأن يحول النظام السياسي من نظام برلماني إلى نظام رئاسي ينتقص من التجربة الديمقراطية التونسية الوليدة.
حركة النهضة التي ترى أنها أبرز من دفع أثمان قرارات الرئيس مازالت على موقفها الرافض لكل هذه القرارات وتصفها ب “الانقلاب على الشرعية” وأن تجميد الرئيس للدستور وإلغاءه يفقده شخصياً شرعيته لأنه انتخب وفقاً لذلك الدستور، وأن إلغاء الدستور يتضمن إلغاء لشرعية الرئيس نفسه. وإلى جانب حركة النهضة سارعت شخصيات سياسية إلى إشهار معارضتها للتوجه الرئاسي بالإعلان عن تشكيل ما أسمته ب “اللقاء الديمقراطي للإنقاذ”، ودعا أحد الأحزاب إلى تنظيم “حوار وطني يُستثنى الرئيس منه”. كما اعتبر قياديون في حركة “تحيا تونس” أن قرارات الرئيس ستزيد من تعميق الأزمة السياسية – الاجتماعية، في حين أن القوى الموالية للرئيس، وهي الأغلبية، ومنها حزب “التحالف من أجل تونس” الذي اعتبر أن قرارات الرئيس “تعبر عن تطلعات أغلبية أبناء الشعب لتحرير البلاد من الفاسدين والعملاء ممن تسللوا إلى مؤسسات الحكم والدولة الذين ثبت أنهم لا يهمهم الحكم إلا بقدر ما يحقق لهم امتيازات ومصالح خاصة”.
هذا الانقسام ربما يعمق الحوار الوطني المنتظر، لكن ستظل تونس تتأرجح بين اليأس والرجاء لحين تتحول خريطة الطريق الرئاسية من قرارات إلى إجراءات، ولحين انتخاب البرلمان الجديد واعتماد الدستور الذي سيكون للشعب الكلمة الأولى والأهم في تحديد معالمه.