الشرق اليوم- قد ينتظر روسيا، إذا تقدمت قواتها نحو كييف وحاولت السيطرة على معظم أوكرانيا، مصير مماثل لمصير الولايات المتحدة حين تدخلت في العراق 2003، وهنا أيضا قد يكون توطيد السيطرة في مواجهة مقاومة واسعة الانتشار ومدججة بالسلاح أمرا بالغ الصعوبة، وستعود أعداد كبيرة من الجنود الروس إلى ديارهم في أكياس جثث.
في الأشهر الأخيرة، نشرت روسيا قوة عسكرية كبيرة ومقتدرة على طول الحدود مع أوكرانيا، وما لا نعرفه هو لماذا (دائما ما يكون قياس القدرات أسهل من تخمين النوايا)، أو حتى ما إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استقر على مسار عمل محدد، فحتى الآن، أوجد بوتين خيارات عديدة، ولكن دون أي نتائج.
تتبادر إلى الذهن هنا أحداث يوليو 1990، عندما قام صَـدَّام حسين، وهو حاكم مستبد آخر، بنشر قوات عسكرية كبيرة الحجم على طول حدود العراق الجنوبية مع الكويت، وفي ذلك الوقت، كانت النوايا غامضة لكن الاختلال في توازن القوى كان واضحا، فطلب القادة العرب من الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش الأب عدم المبالغة في رد الفعل، انطلاقا من اقتناعهم بأن تحرك صَـدَّام حسين كان مجرد خدعة لإجبار الكويت على اتخاذ خطوات لزيادة سعر النفط، الأمر الذي كان سيساعد العراق في التعافي وإعادة التسلح بعد حربه الطويلة مع إيران.
بحلول أوائل أغسطس، تحول ما بدا في نظر كثيرين وكأنه مسرح سياسي إلى واقع حقيقي للغاية، وأدى الغزو إلى الاحتلال، وتطلب الأمر إنشاء تحالف دولي ضخم بقيادة الولايات المتحدة لطرد القوات العراقية من الكويت واستعادة سيادة الدولة.
تُـرى هل من المحتمل أن تحدث ديناميكية مماثلة اليوم على الحدود الروسية – الأوكرانية؟
ردت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على تعزيز القوات الروسية بمزيج مختلط، يتمثل الهدف في إقناع روسيا بعدم غزو أوكرانيا من خلال توضيح حقيقة مفادها أن التكاليف ستفوق أي فوائد وأن بعض مخاوف روسيا يمكن معالجتها، ولو جزئيا على الأقل، إذا تراجعت، ربما يكون بوسعنا أن نسمى هذا النهج الردع الممتزج بالدبلوماسية.
انتقد بعض المراقبين الرد الأمريكي على أنه ضعيف أكثر مما ينبغي، لكن الجغرافيا والتوازن العسكري يجعلان الدفاع عن أوكرانيا شبه مستحيل. كان بايدن محقا في استبعاد التدخل العسكري الأمريكي المباشر من الخيارات الواردة: لكن التقاعس عن التحرك في التصدي لمثل هذا التهديد لن يؤدي إلا إلى تعزيز الشكوك المتنامية بشأن مصداقية أميركا. وعلى هذا فإن بايدن كان محقا أيضا في مقاومة روسيا، والواقع أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، إلى جانب روسيا ذاتها، قدمت تأكيدات لأوكرانيا في عام 1994 باحترام سيادتها وحدودها في مقابل التخلي عن ترسانتها النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفياتي، ومع أن هذا لم يشكل تعهدا أشبه بالتزام من جانب حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لكنه أشار ضمنا إلى أن التخلي عن أوكرانيا أمر غير وارد.
مع ذلك، نجد أن بعض معارضي المقاومة المباشرة للاعتداء الروسي على أوكرانيا يدعمونها في حالة حدوث اعتداء صيني محتمل ضد تايوان، وفي كلتا الحالتين، تعمل الجغرافيا ضد الخيارات العسكرية الأمريكية، وليس هناك التزام أمني صارم مفروض على الولايات المتحدة في أي من الحالتين، لكن حلفاء الناتو ليسوا مستعدين للدفاع ضد هجوم روسي في حالة أوكرانيا، ولا يتوقعون من الولايات المتحدة أن تفعل ذلك، وفي المقابل، نجد أن حلفاء الولايات المتحدة وشركاءها مستعدون لمقاومة العدوان الصيني ويتوقعون المساعدة من جانب الولايات المتحدة في إحباط أي محاولة صينية لفرض الهيمنة الإقليمية. هذا لا يعني أن روسيا ينبغي لها أن تتمتع بحرية التصرف في مواجهة أوكرانيا، وأيا كان النظام القائم في العالم فهو يقوم على مبدأ عدم السماح لأي دولة بغزو دولة أخرى وتغيير حدودها بالقوة، وهذا مبرر قوي لتزويد أوكرانيا بالسلاح للدفاع عن نفسها، فضلا عن التهديد بفرض عقوبات اقتصادية شديدة من شأنها أن تفرض تكاليف باهظة على الاقتصاد الروسي الهش بالفعل الذي يعتمد على الطاقة.
بايدن محق أيضا في عرض مسار دبلوماسي على بوتين إذا قرر أن التراجع عن حافة الهاوية تصرف أكثر حكمة، والواقع أن أفكارا عديدة جديرة بالاهتمام طُـرِحَـت في هذا الصدد: تكثيف المشاركة الدبلوماسية الأمريكية في عملية مينسك الدبلوماسية التي انطلقت في أعقاب تدخل روسيا في شرق أوكرانيا عام 2014، وسحب القوات الروسية والأوكرانية المتمركزة على الحدود المشتركة، والاستعداد لمناقشة بنية الأمن الأوروبي مع روسيا. إدارة بايدن محقة أيضا في تقييد ما تعرضه على بوتين، ومن الواضح أن الامتناع عن ضم أوكرانيا إلى الناتو الآن ليس مثل استبعادها نهائيا، ويصدق الشيء ذاته على أي تأكيدات قد تقدم لروسيا بشأن سياسات الناتو الأخرى، ولا ينبغي لنا أبدا الخلط بين الدبلوماسية والاستسلام.
في نهاية المطاف، سيكون بوتين هو من يقرر ماذا قد يحدث لاحقا، إنه ينظر إلى أوكرانيا باعتبارها جزءا عضويا من روسيا الكبرى، وربما يسعى إلى دمجها لترسيخ إرثه والتعويض- ولو جزئيا- عن انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي وصفه في عام 2005 بأنه “كارثة جيوسياسية كبرى في ذلك القرن”. نأمل أن تكون سياسة رفع تكاليف الغزو وتقديم بعض المبادرات لحفظ ماء الوجه كافية لإقناع بوتين بنزع فتيل الأزمة التي أشعلها. ولكن إذا فشل الردع ونفذ بوتين الغزو، فلابد من فرض العقوبات الموعودة، وهي تتضمن إلغاء مشروع مد خط أنابيب الغاز (نورد ستريم 2) من روسيا إلى ألمانيا وفرض تكاليف حقيقية على المؤسسات المالية الروسية ودائرة بوتين المقربة، وهي لحظة مناسبة أيضا لتعزيز قوة الناتو وتزويد أوكرانيا بأسلحة إضافية والمشورة والمعلومات الاستخباراتية.
هذا يعيدني إلى العراق، ولكن الآن في عام 2003 والسنوات التالية، أقدمت الولايات المتحدة على غزو العراق خوفا من أن صَـدَّام كان يخفي أسلحة دمار شامل ولأنها رأت الفرصة مناسبة لنشر الديموقراطية، ليس في العراق فقط بل أيضا في مختلف أنحاء العالم العربي، ورغم أن الحرب بدأت بحملة جوية ضخمة، “الصدمة والرعب”، وسقوط بغداد السريع، فقد تبين أن تعزيز التقدم العسكري أمر بالغ الصعوبة ومكلف للغاية حيث لاقت القوات التي تقودها الولايات المتحدة معارضة شديدة من جانب جماعات متمركزة في المناطق الحضرية والمدن، وانقلب الشعب الأمريكي ضد الحرب والسياسة الخارجية التي اعتُـبِـرَت مفرطة في الطموح وباهظة التكلفة.
ربما ينتظر روسيا مصير مماثل إذا تقدمت قواتها نحو كييف وحاولت السيطرة على معظم أو كل أوكرانيا، وهنا أيضا قد يكون توطيد السيطرة في مواجهة مقاومة واسعة الانتشار ومدججة بالسلاح أمرا بالغ الصعوبة، وستعود أعداد كبيرة من الجنود الروس إلى ديارهم في أكياس جثث، كما عادوا من أفغانستان في أعقاب التدخل السوفياتي في عام 1979، وبعد عشر سنوات، خرجت القوات السوفياتية من أفغانستان، وخرج القادة السوفيات الذين ارتبطوا بالغزو من مواقع السلطة، وتفكك الاتحاد السوفياتي ذاته، ومن الحكمة الآن أن يستوعب بوتين دروس الماضي قبل أن يتخذ القرار بشأن المستقبل.