بقلم: محمد قواص – النهار العربي
الشرق اليوم- يهمّ إيران جداً أن تسترجع دمشق مقعدها الشاغر في جامعة الدول العربية. يهمّ طهران أن يكون لها نفوذ داخل المنظمة الإقليمية العربية من خلال حلفائها داخل المجموعة العربية. ولطالما لم تحظَ قرارات الجامعة ضد إيران بلغة الحزم والوضوح، ما أربك أي نصوص صادرة عن اجتماعات مجلس الوزراء العربي أو عن القمم العربية، وجعل صيغتها متصدّعة تماشياً مع موقف هذه الدولة العضو أو تلك.
لكن أكثر من ذلك. لا يشبه نظام دمشق أي نظام عربي متحالف مع إيران أو خاضع أو صديق أو متفهّم لها. امتلكت طهران منذ قيام الجمهورية الإسلامية تحالفاً مع دمشق إلى درجة وقوف نظامها السياسي في عهد حافظ الأسد إلى جانب إيران في حربها ضد العراق الذي كان يحظى بدعم عربي (خليجي خصوصاً) كاد يكون شاملاً. وامتلكت طهران في عهد بشار الأسد نفوذاً متصاعداً مخترقاً بنية النظام السوري ومؤسساته، وطوّرت ذلك النفوذ إبان اندلاع الصراع في هذا البلد، بما جعله استراتيجياً أمنياً اقتصادياً، بحيث يرتبط أمن نظام دمشق حيوياً بأمن نظام طهران.
ولئن ينظر العالم العربي إلى النظام السوري بصفته بات رهينة إيرانية، فإنه يعتبر أيضاً أن النظام يدين ببقائه لروسيا، بحيث بات البلد أيضاً رقعة نفوذ روسي تستخدمه موسكو في تظهير موقعها في الشرق الأوسط، كما وزنها الجيواستراتيجي في العالم. ووفق ذلك، فإن قرار إعادة سوريا إلى الجامعة العربية يعني تشريع القبول بدولة تسيطر موسكو وطهران على قرارها، بما يدرج الموافقة على هذا الأمر داخل إطار تقديم خدمات تراعي، من دون مقايضة، مصالح موسكو وطهران. وهنا تكمن المشكلة.
لا تخفي روسيا رغبتها في أن يعمد العرب إلى “إكرام” موسكو باستعادة سوريا الى داخل جامعتهم. ولم يألُ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف جهداً في التجوّل بين العواصم العربية حاثاً الدول العربية على إعادة تطبيع العلاقات مع سوريا الجديدة (بالنسخة الروسية) بعد عشر سنوات من قرارهم إخراج دمشق من ناديهم الإقليمي. ويهمّ روسيا تسويق هذا الأمر لدى البيئة العربية وجعل التطبيع مع دمشق ناجزاً، فمن شأن ذلك أن يحرج البيئتين، الأوروبية والأميركية، ويضطرهما لإعادة تعويم نظام دمشق ووأد القرارات الأممية التي صدرت عن مجلس الأمن بشأن التسوية في سوريا.
على هذا، لا يوفّر الصراع الغربي مع روسيا كما الصراع العربي مع إيران أرضية منطقية لتقديم “خدمات”، تكاد تكون مجانية، لموسكو وطهران في سوريا. تطوّر موقف الدول العربية خلال السنوات العشر الأخيرة، وبدا أن بعض الدول تُظهر مرونة في التعاطي مع دمشق وتشرع في فتح خطوط معها. غير أنه، ووفق ما يكرر أمين عام الجامعة العربية أحمد أبو الغيط، لا إجماع عربياً على تطبيع الجامعة العربية العلاقات السياسية مع سوريا. كما أن المواقف والمبادرات التي صدرت عن بعض الدول العربية وعبّرت، بسرعات مختلفة، عن اهتمامها بالعلاقة مع دمشق بقيت ثنائية سيادية لم تُنضج موقفاً عربياً شاملاً.
انسحب العرب من الأزمة السورية تماماً في السنوات الأخيرة وبات الفاعلون المؤثِّرون في راهن سوريا ومستقبلها من خارج خريطة العالم العربي. للولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران قوات عسكرية حوّلت سوريا مقاطعات نفوذ مباشر، ولإسرائيل اليد العسكرية الطولى في التأثير في حاضر سوريا وغدها. وعلى هذا فإن إعادة سوريا إلى مقعدها العربي وجب أن تأخذ هذا الواقع الفسيفسائي بالاعتبار.
ولئن يُطل العرب على الأزمة السورية من بوابة حضورهم داخل الأمم المتحدة التي أصدرت قرارات (أهمها الرقم 2254) تمثّل رؤيتها للحلّ، فإنهم، مجتمعين كما الأوروبيين والأميركيين، لم يلحظوا أعراض تسوية بإمكانها التبشير بومضات احترام للقرارات الأممية. ولئن يعرف العرب مدى أهمية سقف جامعتهم السياسي لتشجيع الدول المانحة (العربية في مقدمها) على الإفراج عن موارد إعادة الإعمار في سوريا، فإن قرار عودة دمشق إلى الجامعة العربية ما زال عصياً، على الأقل في الوقت الحاضر، وقد يكون من الصعب توفير ما يحتاجه من إجماع داخل قمّة الجزائر.
والواضح أن مستجدات كثيرة، ترتبط بالتوتر الغربي – الروسي وذلك الغربي – الإيراني أعاد تصليب موقف إدارة جو بايدن في واشنطن من المسألة السورية. وكان لافتاً نشاط الكونغرس بشأن التشدد في تطبيق عقوبات “قيصر” والتصدي لصناعة المخدرات في سوريا، كما التحقيق بثروة الأسد وعائلته. وكانت لافتة أيضاً مطالبة مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، ليندا توماس-غرينفيلد، أوائل الشهر الجاري، بآلية قضائية تشبه “محاكم نورمبرغ” لمحاسبة النظام السوري.
والواضح أيضا أن فشل الحوار بين إيران والسعودية في جولاته الأربع، وإن يحرص البلدان على استخدام تعابير متحفّظة أو متفائلة، أبعد إمكان تطبيع الرياض علاقاتها مع رهينة إيران السورية. وفي توقيت هجوم سفير السعودية لدى الأمم المتحدة عبدالله المعلمي ولهجته ضد دمشق، ما يوحي بأن الرياض غير جاهزة للاعتراف بالأمر الواقع الإيراني في دمشق وهي التي ترفض وتكافح ذلك الأمر الواقع في صنعاء.
والواضح أيضاً أن الأوروبيين، من داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه (لا سيما بريطانيا) المعنيين بالإفراج عن تمويل إعادة إعمار بلد تحت وصاية روسيا، لن يقبلوا بتقديم خدمات لموسكو فيما جيشها يحتشد بجلافة على حدود أوروبا من الخاصرة الأوكرانية.
قبل شهر آب (أغسطس) قامت سفيرة إدارة جو بايدن في بيروت، دوروثي شيا، بالتبشير باستجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن نحو لبنان عبر الأراضي السورية. قيل وقتها إن واشنطن ستجمّد قانون قيصر في كل ما يتعلق بهذه الورشة. اجتمع وزراء الدول المعنية في عمّان لتدبير الأمر مستظلين بذلك الإعفاء الأميركي المحتمل من مفاعيل العقوبات ضد دمشق. غير أن مزاجاً عربياً – غربياً – أميركياً أعاد التعتيم على تلك الاستدارة “القيصرية”، بحيث أعاد قطع طريق الجامعة العربية أمام دمشق، ما يعني أن أمر التطبيع العربي المنشود قد تأجّل حتى تتوفّر شروط سورية وإقليمية ودولية مفقودة.
والحال أن تقارير تناقلت عن وثائق أردنية أنباء خريطة طريق يتبادل وفقها العرب ودمشق التحوّل خطوة مقابل خطوة. في ثنايا تلك الورش حديث عن نأي دمشق بنفسها عن طهران وخروجها من أجندات إيران في المنطقة. في المقابل فإن المنظومة الغربية عوّلت ببلادة واستقالة على موسكو لتقديم وجبة سورية تؤسس لتحوّلات في نظام حكم عمادها دستور جديد. والواضح، وبلا أي مفاجآت، أن دمشق لا تستطيع الابتعاد عن طهران، هذا إذا أرادت أصلاً ذلك، كما أن إيران وروسيا لا تريدان للأسد أن يتقدم بأي خطوة. فموسكو لا تريد أي تحوّلات لا تأخذ بعين الاعتبار مكانة نظام في دمشق يخضع بشكل كامل لنفوذها (حتى بالشراكة مع طهران) ولا يصحّ أن تربكه أية إصلاحات دستورية توحي بها نصوص القرارات الأممية.