الشرق اليوم- أصدرت محكمة هانوي قبل أيام حُكماً بالسجن لتسع سنوات ضد الناشطة الفيتنامية فام دوان ترانج، حيث يقول فيل روبرتسون، نائب مدير منظمة “هيومن رايتس ووتش” في آسيا: “ما حصل هو مؤشر لاذع على جميع المخالفات الحاصلة اليوم في فيتنام الاستبدادية”.
اعتُقِلت ترانج في شهر أكتوبر من السنة الماضية، في اليوم الذي اجتمع فيه مسؤولون من الولايات المتحدة وفيتنام لمناقشة حقوق الإنسان وحرية التعبير، ولم يغفل بعض المعلّقين عما حصل، فهم يتّهمون الحكومات الغربية بعدم تحريك أي ساكن لمواجهة فيتنام رغم سجلها السيئ في مجال حقوق الإنسان.
تطلق إدارة بايدن مواقف متزايدة بناءً على اعتبارات أيديولوجية، فقد كان بايدن قبل وصوله إلى السلطة يقول إن سياسته الخارجية ستتمحور حول الديموقراطية، ثم أعلن الرئيس الأمريكي في الفترة الأخيرة: “الديموقراطية لا تتحقق بالمصادفة، بل يجب أن ندافع عنها ونناضل في سبيلها ونقوّيها ونُجددها”، واستكمل بايدن هذا النهج خلال قمة الديموقراطية التي نظّمها، علماً أنها قوبلت بانتقادات واسعة من المحللين السياسيين، ولم تتلقَ فيتنام دعوة لحضور تلك القمة، مع أن ممثّلي حكومات أقل ديموقراطية حضروا، مثل العراق وجمهورية الكونغو الديموقراطية.
لكن يثبت وضع فيتنام أن الولايات المتحدة تطبّق مقاربة مزدوجة، يسهل أن تفلت الدول من المحاسبة رغم استبدادها وانتهاكات حقوق الإنسان فيها إذا اصطفت مع واشنطن ضد الصين، بالكامل أو جزئياً، وفي المقابل، تواجه الدول التي تُعتبر مقرّبة من بكين تحديات كبرى بسبب سياساتها المحلية.
لماذا تُعاقَب كمبوديا مثلاً وتتلقى فيتنام معاملة خاصة؟ رفع باراك أوباما قرار حظر توريد الأسلحة ضد فيتنام في عام 2016، لكن فرض جو بايدن حصاراً مماثلاً على كمبوديا هذا الشهر مع أن النظام السياسي هو أكثر استبداداً في فيتنام ويسجّل هذا البلد أيضاً سجلاً أسوأ في مجال حقوق الإنسان.
يسارع النقاد أحياناً إلى إطلاق مزاعم فارغة حول اندلاع “حرب باردة جديدة”، فيؤكدون اختلاف المنافسة الأمريكية الصينية عن المنافسة الأمريكية السوفياتية واستحالة إقامة هذا النوع من المقارنات، لكنهم مخطئون، فهم يتناسون أن الحرب العالمية الثانية لم تكن نسخة مطابقة من الحرب العالمية الأولى، لكنّ “الحرب الباردة الثانية” تحمل قواسم مشتركة مع الأولى، وتتعلق إحدى المقارنات بقرار واشنطن التغاضي عن النزعة الاستبدادية وانتهاكات حقوق الإنسان حين يرتكبها حلفاؤها.
القِيَم مهمة طبعاً، لكنها ستبقى ثانوية مقارنةً بالمخاوف الجيوسياسية الأمريكية، كما تحمل التحالفات طابعاً عاجلاً، وتهدف القيم إلى تحقيق طموحات معينة، لكن تؤكد المواقف التي شملتها قمة بايدن الديموقراطية على اختلاف طريقة التفكير السائدة على المدى القصير والطويل، فما أهمية أن تحمل حكومة فيتنام سجلاً مريعاً في مجال حقوق الإنسان إذا كانت تشكّل اليوم حصناً منيعاً ضد الاعتداءات الصينية في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ؟
يطرح هذا الوضع مشكلة برأي الناشطين الفيتناميين، ففي المقام الأول، من المعروف أن جميع الأصوات الداعمة للديموقراطية في فيتنام هي موالية للولايات المتحدة، كما أنها تحمل نزعة قومية قوية وترغب في أن تتحدى حكومتها الصين على جميع المستويات، لكن كلما أصبحت فيتنام جزءاً أساسياً من الأهداف الأمريكية الاستراتيجية، ستصبح واشنطن أكثر ميلاً إلى تجاهل القمع السياسي هناك، ولو لم تكن فيتنام طرفاً مهماً في استراتيجية الولايات المتحدة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، يصعب ألا تُكثّف واشنطن انتقاداتها لحملات الحكومة القمعية، وإذا انحازت هانوي يوماً لصالح قوة عظمى معينة دون سواها بدل التنقل بين الطرفَين، فستجد واشنطن حينها سبباً وجيهاً للتحرك.
لو كانت فيتنام جزءاً من المعسكر الأمريكي أو الصيني بكل وضوح، لأصبحت واشنطن في مكانة أقوى للتصدي لانتهاكاتها، لكن بما أن هانوي تراوغ وتلعب على جميع الحبال، لا تستطيع واشنطن أن تجازف بانتقاد انتهاكات حقوق الإنسان فيها أو “خسارتها” لصالح بكين، وفيما يتعلق بهانوي، يبقى الاحتماء من الولايات المتحدة والصين معاً نهجاً منطقياً على المستويَين الدولي والمحلي.