بقلم: جوليان بيرون
الشرق اليوم- تحلق المروحية الفرنسية وتتباطأ لتدقق في المشهد الممتد من الرافعات الهائلة لميناء دوراليه إلى إيلوت دي هيرون، قبل أن يتراءى لها رصيف الفتنة وموضوع الخلافات والمزيد من الشائعات، وهو رصيف خرساني بسيط المظهر، يرتفع في نهايته عمود إنارة تعلوه كاميرات، ويتصل ببرج مراقبة ثم بجدار يحيط بمجمع من حوالي 30 مبنى أغبر اللون، إنها القاعدة العسكرية لجمهورية الصين الشعبية في جيبوتي.
إن هذه القاعدة التي افتتحت عام 2017، هي النقطة الأهم للصين خارج أراضيها، وهي تضم مدرج طائرات مروحية ورافعات تواصل العمل بجد، إضافة إلى كيلومترات من الجدران تمنع أي قادم من الاقتراب، ويصلها طريق وحيد صحراوي، يكشف للحراس والكاميرات أي حركة تقترب منهم، ولكن الطريق الجوي يتيح مزيدا من الحرية ورؤية أفضل، كما يقول الجنرال ستيفان دوبون، رئيس القاعدة الفرنسية في جيبوتي.
وتقول المجلة إن المروحية التي تقل القائد الفرنسي تمر بمحاذاة منطقة حظر الطيران التي فرضت حول القاعدة الصينية الجديدة، عائدة من مركز للوحدات الجيبوتية بعد تسليم بعض الشهادات، لينكشف أمامها بوضوح منظر الرصيف المكتمل والذي ما زال مهجورا، “في انتظار فرصة سانحة لتسميته” حسب اعتقاد الجنرال الذي يخدم في هذه المنطقة منذ 2010، والذي شاهد كيف نمت السيطرة الصينية على هذه المستعمرة الفرنسية السابقة.
يقول هذا الجنرال: إن الصينيين “في 10 سنوات بنوا القاعدة العسكرية وهذا المرفأ الذي يغير قواعد اللعبة، لأنه يشكل ملجأ لجميع السفن والغواصات الصينية التي تمخر في خليج عدن”، ولا يحتاج الأمر -حسب العديد من الخبراء- إلا إلى زيادة طول وعمق الميناء، من أجل استيعاب حاملات الطائرات الموجودة أو قيد الإنشاء، وعندها سيكون هذا الرصيف محط أنظار الخبراء العسكريين في جميع أنحاء العالم، لأنه لا يبعد سوى 10 كيلومترات أو أقل من دقيقة طيران من معسكر ليمونير.
واجهة تناسب الجميع
ومعسكر ليمونير -كما يقول المراسل- كان معسكرا فرنسيا قبل أن يتحول عام 2002 إلى قاعدة أميركية، تمثل الوجود العسكري الدائم الوحيد للولايات المتحدة في القارة الأفريقية، وتضم حوالي 5 آلاف جندي منعزلين، يمارسون رياضة كمال الأجسام والتدريب وهم مستعدون للتدخل في أي وقت، وطائراتهم تقلع ليلا ونهارا منذ أن هدد متمردو تيغراي بالاستيلاء على أديس أبابا عاصمة إثيوبيا المجاورة، ولكنهم بدون ميناء خاص، ويعتمدون على الميناء التابع للقاعدة البحرية الفرنسية.
هنا -كما يقول المراسل- لا شيء يذكر بالتنافس الأمريكي مع الصين الذي بقي خامدا منذ “قضية الليزر”، عندما اشتكى الطيارون الأمريكيون في عام 2018، من أن الأشعة المنبعثة من القاعدة الصينية قد أعمتهم، وتدخلت حينها جيبوتي في محاولة لتهدئة الأمور بين “ضيفيها” العظيمين.
ويتذكر رئيس الوزراء عبد القادر كامل محمد الحادث قائلا “كانت هناك بعض المشاكل الصغيرة في البداية عند قدوم الصينيين”، ويضيف من مكتبه في وسط المدينة، وعلى منتصف الطريق بين القاعدتين المتنافستين، أنه قال للأمريكيين الذين كانوا يحاولون إقناعه بعدم فتح أراضيه للصينيين، “لم لا؟ أليست لديكم أهداف مشتركة، كالحرب الدولية على الإرهاب والرغبة في أن تستخدم سفنكم التجارية باب المندب دون أي مشكلة”، إنه يدرك أن المضيق الذي يفصل بلاده عن اليمن، ممر إلزامي تعبره حوالي 30% من بضائع العالم والكابلات الضرورية لحركة الإنترنت الدولية.
وأشار المراسل إلى أن جيبوتي تبدو واجهة تناسب الجميع في هذه المنطقة غير المستقرة، ففي الجنوب، ابتلي الصومال بالإرهاب، وفي الشمال تبدو إريتريا نوعا من كوريا الشمالية الأفريقية، وفي الغرب، يتداعى العملاق الإثيوبي ويوشك على الانهيار، وفي السودان يتنازع المجلس العسكري والحركة المؤيدة للديمقراطية السودان، أما في الشرق على الجانب الآخر من باب المندب، فيعيش اليمن حربا أهلية منذ 7 سنوات، ووسط كل هذا، تبدو جيبوتي جزيرة استقرار، ولذلك وضع العديد من القوى بيادق هناك، ليتحول هذا البلد الصغير الذي يسكنه أقل من مليون نسمة، إلى مركز ثقل عالمي.
وترى المستشاريات الغربية أن جيبوتي “مختبر لعالم الغد” أو “مجلس أمن مفتوح”، لأن 3 من الأعضاء الخمسة الدائمين لديهم قواعد عسكرية هناك، وقد تخلفت عنهم بريطانيا والروس، لا لأنهما لم يحاولا، ولكن الروس رفضوا بصورة قاطعة وتحولوا غربا إلى السودان، وبريطانيا كانت تنقصها اللباقة، حيث طلبت الحضور من الأمريكيين قبل أن تطلبه من جيبوتي نفسها، ويضم هذا البلد الصغير كذلك قاعدة يابانية وقوات إيطالية وإسبانية كجزء من المهمة الأوروبية لمكافحة القرصنة.
عش للجواسيس
وبسبب هذا الزخم، يحلم هذا البلد بأن يكون “مركزا اقتصاديا” على غرار دبي أو سنغافورة، وهو في الواقع -كما يقول المراسل- عش للجواسيس، حيث يتجسس كل واحد على الآخر، وقد انقسمت عاصمة البلاد إلى قسمين، الصينيون في الشمال الغربي، والغربيون في الجنوب الشرقي، وكأنها نوع من برلين في حقبة الحرب الباردة، ولكن في القرن الأفريقي.
وفي لعبة من سيستحوذ على أكبر مساحة، يبدو أن للصينيين اليد العليا، لا بفضل رصيفهم فقط، بل لأنهم أصل المشاريع الاقتصادية المثيرة للإعجاب التي تم إطلاقها في السنوات الأخيرة في جيبوتي، مثل ميناء دوراليه المختلط والمنطقة الحرة للمدينة والسكك الحديدية التي تربطها الآن بإثيوبيا، وكلها تدين بها الدولة الصغيرة للصين.
وقد فتحت الصين معهد الدراسات الدبلوماسية عام 2014 في جيبوتي، وهو يقدم دروسا في لغة الماندرين للشباب الراغبين في التعامل مع هذا الشريك الجديد، ولا يتم التحدث فيه بكلمة من الفرنسية أو الإنجليزية في الفصول، وهو مبنى حديث وواحة من الهدوء بين صخب وسط المدينة، ومكان مثالي لدراسة الجغرافيا السياسية أو للتجسس على السلطات الجيبوتية -كما يشك أحد الدبلوماسيين الغربيين- لأنه على بعد أمتار قليلة من رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية والبنك المركزي.
وفي نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أقيمت مراسم ترحيب كبيرة لدخول 4 سفن جديدة إلى الأسطول الجيبوتي، اثنتان منها تم تسليمهما في ذلك اليوم من صنع الصين، حيث تعهدت بكين بتدريب البحرية الجيبوتية، كما يفعل الفرنسيون.
وتساءل المراسل هل ستستأنف الصين تعاونها النادر مع الغرب؟ حين كان المظليون الصينيون قبل عام 2020، يقفزون من الطائرات الفرنسية، حيث يقول دبلوماسي صيني “آمل ذلك، ولكن من السابق لأوانه معرفة ذلك. نريد تعاونا أفضل مع الغرب، لكننا لم نجد الفرصة المناسبة بعد”.
ترجمة: الجزيرة