بقلم: حكيم مرزوقي – العرب اللندنية
الشرق اليوم- “الفوضى الخلاقة” مصطلح يبدو مبهما وملغزا أطلقته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس في عام 2005 معلنة سياسات بلادها تجاه المنطقة، لكنها لم تبتدعه كسياسة، فهو – بلا شك – سلوك قديم نسبيا، لكن هذه السيدة لم تضف شيئا غير أنها أعلنت عنه عبر إطلاق التسمية التي جاءت لاحقة، ذلك أن السياسات كالمواليد، منها من نسميها فور ولادتها، ومنها من نلبسها أسماءها لاحقا.. وقد تكون مزدوجة أو مضللة.
ومهما يكن من أمر، فإن هذه الفوضى الخلاقة حمالة أوجه: هل هي لصالح الشعوب أم الأنظمة أم لفائدة الإدارة الأميركية وحدها؟
الفوضى الخلاقة هي بلا شك وصفة أميركية لمعالجة ظاهرة الإرهاب على حد زعمهم، وجاءت بعيد أحداث سبتمبر 2001، لكن التساؤل الأخطر هو هل يأتي الدواء قبل الداء أحيانا، وهل يحدث أن يبتدع أحدهم دواء ثم يفكر له عن وجود مرض يناسبه؟
نترك ذلك في عهدة ملفات الاستخبارات وأنصار نظريات التأويل والمؤامرة ثم نعود إلى هذه المقاربة بين الفوضى الخلاقة كعلاج أميركي فعال في نظر أصحابه، و”الأعراض الجانبية” لهذا “الترياق الشافي”.. وقد يحدث أن تنجح العملية ويموت المريض أو يصبح الدواء أشد فتكا من الداء نفسه.
هذا ما حصل فعلا، إذ أن الرابح الأكبر في كل مقاربة علاجية تزعم التصدي لداء عضال مثل الإرهاب، هي الشركات المنتجة للأمصال واللقاحات كما يحدث الآن مع جائحة كورونا وتداعياتها، والتي ستستمر وتتعايش مع الأدوية حتى تؤسس لثقافة جديدة.
كذلك الأمر بالنسبة إلى ظاهرتي الإرهاب والتطرف فكلما عادت هذه “الجائحة” عبر متحول جديد كداعش وطالبان والقاعدة وغيرها، ظهرت أصناف جديدة من اللقاحات والعقاقير.. والرابح دائما هو الشركات المصنعة والمصدرة والتي تملي علينا “بروتوكولاتها العلاجية” كواجب التباعد وأخذ الحيطة والحذر والاحتراز.
هذه المقاربات الأميركية في التصدي لجائحة الإرهاب أفقدت أنظمة المنطقة مناعتها، وجعلت شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تتململ من حكامها وتتمرد عليهم بغاية “التشافي” من الدكتاتورية والتماثل إلى الديمقراطية التي تدعو إليها الولايات المتحدة فأنتجت ما يعرف بـ”الربيع العربي” كآلية دفاع ومناعة.
لكن هذه الآلية الدفاعية المتمثلة في الثورة على أنظمة الحكم فقدت بوصلتها وضلت وجهتها، تماما كما يحدث مع الجسم البشري حين ينتفض جهازه المناعي بشكل مغلوط فيصيب خلايا سليمة ويسبب أمراضا خطيرة وأكثر فتكا من سابقاتها التي كنا نروم معالجتها والشفاء منها.
عم الإحباط بعد حالات التهليل للربيع العربي، وساد الاعتقاد بأن اليوم الذي نبكي منه أهون بكثير من الذي سوف نبكي عليه، ذلك أن من أشد أعراض التعطش إلى الديمقراطية هو بروز أنظمة أكثر استبدادية من سابقاتها. والأسوأ من ذلك تفكك الأنظمة الإدارية، ضياع هيبة الدولة، وسيادة الفوضى غير الخلاقة.. وهنا نستحضر مقولة ابن خلدون الذي يفاخر به التونسيون كواحد منهم “ألف يوم بحاكم ظالم أفضل مرة من يوم واحد دون حاكم”.. وهكذا هربت الشعوب العربية من تحت الدلف إلى تحت المزراب، كما يقول المثل العامي.
لم يعد يختلف اثنان في أن المطلب الديمقراطي بالمفهوم الأميركي فخ قاتل، ذلك أن النموذج الأميركي نفسه مشكوك فيه. والقمة الديمقراطية التي دعا إليها الرئيس بايدن نحو 110 دولة لم يوجد بينها من الدول العربية سوى العراق الذي ترتع فيه الميليشيات الإيرانية بعد عزم الولايات المتحدة على الانسحاب، الأمر الذي طرح علامات استفهام عديدة ومثيرة حول هذه القيمة السياسية التي كان قد وصفها رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل بأنها أحسن الأسوأ في أنظمة الحكم.
الأمر الآخر والأكثر مدعاة لفقدان الثقة هو أن الولايات المتحدة من أكثر البلدان تراجعا في الشأن الديمقراطي وفق المعهد الأوروبي للديمقراطية في السويد، مما جعلها “مثل جرس الكنيسة الذي يدعو إلى الصلاة ولا يصلي”.
وماذا بعد؟ كيف السبيل إلى تصديق هذه السياسة القائلة بمكافحة الإرهاب وهي ترتكب الأخطاء بل الفظائع في حالتي بقاء القوات الأميركية أو انسحابها كما حدث مع أفغانستان التي عادت إلى حكم طالبان، و”كأنك يا أبوزيد ما غزيت”.
أما في حالة بقائها فإن القوات الأميركية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ووفق صحيفة نيويورك تايمز قتلت 120 قرويا سوريا في ضواحي قرية توخار في ضربة قال البنتاغون وقتها إنها استهدفت تجمعا لمقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية. وجاء في مثال آخر تنفيذ ضربة في نوفمبر 2015 بمنطقة الرمادي في العراق بعد رصد شخص يجرّ “غرضا مجهولا وثقيلا” إلى موقع تابع لتنظيم الدولة، وتبيّن في تقرير أعد بعد مراجعة أن الغرض كان طفلا قُتل في غارة.
هذه هي الفوضى الخلاقة التي تخلط الأوراق ثم تترك اللاعبين يعيدون ترتيبها وفق المزاج الأميركي، ومن يستأثر بالربح تطلب منه إعادة الترتيب، لكنها قد تسمح بهامش من الشعور بالانتصار كي تكون الفوضى “خلاقة” وغير مدمرة بشكل كامل.