بقلم: حسام ميرو – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – في 26 ديسمبر/ كانون الأول 1991، تبخّرت الإمبراطورية السوفييتية، وتداعت معها واحدة من أقوى قوتين في القرن العشرين، فقد كان الاتحاد السوفييتي، يهيمن على قسم كبير من العالم، ويحدّد سياسات دوله، ومعاركها، وشكل نظامها الاقتصادي، وخطابها الأيديولوجي، وذلك طوال سبعة عقود من الزمن، لم يكن أحد يتخيّل خلالها، أن هذه القوّة العظمى يمكن أن تزول بشكل سريع ودراماتيكي، تاركة الدول التي دارت في فلكها لمصيرها الغامض، بعد أن فقدت واحدة من أهم مرتكزات مشروعيتها الدولية، فقد شكّل النظام الاشتراكي للاتحاد السوفيتيي شرعية الكثير من الحكومات، في مواجهة ما كان يسمى «الإمبريالية الأمريكية»، والنظام الرأسمالي الغربي، ومشاريعه الاستعمارية.
ثلاثة عقود مرّت من الزمن على انهيار الاتحاد السوفييتي، جرت خلالها الكثير من الأحداث المفصلية في الشرق الأوسط والعالم، كان يصعب تخيّل حدوثها في ظل وجود الاتحاد السوفييتي، أي في ظل النظام الدولي ثنائي القطبية، ما يعني جوهرياً أن الأحداث التي مررنا بها دولياً كانت في أحد تجلياتها نتيجة من جملة نتائج تداعي الاتحاد السوفييتي، فبعد انهياره، بقيت الولايات المتحدة القطب المؤهل من جميع النواحي، العسكرية والسياسية والاقتصادية لإدارة النظام الدولي، لكن انفراد قوّة واحدة في إدارة العالم، من وجهة نظر التوازن الدولي، أمر صعب، بل ربما كارثي في بعض الأحيان، هذا عدا عن احتمالات فشل هذه القوة العظمى في إدارة العالم، وهذا ما رأيناه في حالات عديدة، قد تكون أبرزها حالة العراق، حيث أدى الاحتلال الأمريكي للعراق إلى زعزعة نظام الأمن والاستقرار الذي كان قائماً، وتغيير معادلاته، وفتح كامل منطقة الشرق الأوسط على فوضى لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، من دون وجود آفاق واضحة لنهايتها.
في ذكرى سقوط الإمبراطورية، لا يمكن إلا استعادة بعض أهم الدروس التي شكّلتها تجربة الاتحاد السوفييتي، وقراءة أهم النتائج المستمرة لنهاية هذه التجربة، إذ إنه، وبغض النظر عن موقفنا الأيديولوجي من الاتحاد السوفييتي، ونظامه الاشتراكي، ومشكلات نظامه البيروقراطي، إلا أن وجوده منح النظام الدولي حالة توازن، منعت اندلاع الكثير من الحروب، وأسهمت في استقرار منظومات إقليمية عديدة، بالإضافة إلى ما قدّمه الاتحاد السوفييتي من دعم مباشر أو غير مباشر للكثير من قضايا التحرّر، وبالتالي فإن سقوط التجربة كان له تأثير مباشر على كسر التوازن بين قوى ومشاريع إقليمية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
التجربة الكبيرة التي شكّلها الاتحاد السوفييتي، تداعت إلى حدّ كبير من داخلها، من دون مواجهة عسكرية مع أمريكا والغرب، بفضل عدم صمود الديناميات الداخلية لها أمام التطورات الكبيرة التي عرفها العالم، ونتيجة هيمنة الأيديولوجيا، التي عرقلت تطوّر النظام الاقتصادي والقيمي للمنظومة الاشتراكية، وعدم القدرة على الوصول إلى الموارد الحيوية في العالم، في الوقت الذي كان فيه الخصم الغربي يتطوّر معرفياً واقتصادياً وتكنولوجياً، مع قدرة كبيرة في الهيمنة على أهم الموارد الحيوية في العالم، مع تطوير نظام في الحكم يضمن الحقوق المدنية للأفراد، ويمنع تغوّل السلطات التنفيذية عليها.
من منظور نسبي للتاريخ، فإن التجربة الليبرالية الغربية انتصرت في صراعها مع الاتحاد السوفييتي، لكن هذا الانتصار لم يترجم عملياً إلى إعادة بناء نظام دولي جديد، يتصف بالتوازن، فقد مارست أمريكا منذ انفرادها بقيادة النظام الدولي حالة من التجريب غير الفعّال، مستندة إلى غياب أي قوة منافسة لها، وقد أخفقت إلى حدّ كبير، وأحياناً بشكل كامل، في أهم الملفات التي تصدّت لها، كما في ملفات العراق وأفغانستان والإرهاب، مع تراجع كبير عن خطاب الديمقراطية، لمصلحة خطاب القوّة المباشرة، أو عدم إيلاء ملفات كونية الاهتمام المطلوب، كما في ملف المناخ، وهو ما يدفع العالم ثمنه اليوم، في التحولات الكارثية التي تشهدها البيئة.
الصراع الموجود اليوم في النظام الدولي، يؤكد الحاجة الملحّة لوجود شراكة في قيادة هذا النظام، فالانفراد الأمريكي في قيادة العالم أثبت أنه غير ممكن، لكن القوتين المرشّحتين لأن تكونا شريكتين في قيادة هذا النظام، أي الصين بالدرجة الأولى، ومن ثمّ روسيا، ما زالتا بعيدتين عن إحراز مكانة الشريك، خصوصاً أن الأولى لم تبلور بعد سياقاً عالمياً، والثانية تحاول أن تلعب دوراً يفوق إمكاناتها الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، وبانتظار أن يبلور النظام الدولي توازناً فعّالاً، سيبقى متأثراً بنتائج تبخّر الإمبراطورية.