بقلم: جمعة بوكليب – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – في يوم 25 ديسمبر (كانون الأول) 2021 تمرُّ الذكرى الثلاثون على اختفاء الإمبراطورية السوفياتية من على خريطة العالم.
على عكس غيرها من الإمبراطوريات، انتهت الإمبراطورية السوفياتية فجأة وبسلام، ومن دون حرب أو إراقة نقطة دم واحدة. الإمبراطورية التي جاءت مع عاصفة الحرب الكونية الأولى ذهبت مع أول ريح. الأمر حدث فجأة، حتى أن أجهزة الرصد والمراقبة الاستخباراتية الغربية لم تتمكن من التنبؤ به، أو حتى التكهن بإمكانية حدوثه.
في يوم عيد الميلاد لدى الغربيين عام 1991، ومن دون ضجيج، تمّ إنزال العلم الأحمر، رمز الاتحاد السوفياتي، من ساريته على قصر الكرملين بموسكو للمرّة الأخيرة. الدولة الاشتراكية الأولى في العالم ظهرت عام 1917 بثورة عاصفة هزّت أركان المعمورة، قادها الحزب الشيوعي الروسي بقيادة فلاديمير لينين، ودفنت رسمياً يوم 25 ديسمبر (كانون الأول) عام 1991.
74 عاماً من وجودها على خريطة العالم، فرضت خلالها مفردات قاموسها السياسي، وألزمت العالم بسماع دقات إيقاع أناشيدها الحماسية، والإنصات إلى تعاليم ثقافتها وأدبياتها، وألوان ونقوش رموزها الاشتراكية في معظم بقاع الأرض، لكنها أخفقت في البقاء والاستمرار. 74 عاماً، لم تكن كافية لتحقيق ما جاءت لإنجازه من وعود، وانتهت من دون أن يرى الكادحون في روسيا، وفي غيرها من البلدان، أي أثر للجَنّة الأرضية التي وُعدوا بها، وقضوا حياتهم في انتظارها.
عوامل عديدة (داخلية وخارجية) تضافرت، بمرور الوقت، على قضم أساسات تلك الإمبراطورية، فبقي البناءُ معلقاً في الهواء لسنوات طويلة، معرّضاً للسقوط، إلى أن جاءت اللحظة المواتية، فانهار بمن فيه. وحين حملت أمواج الأثير الخبر للعالم، كان عدم التصديق في كل العواصم هو رد الفعل المشترك. لكن فيما بعد، رُفعت الأنخاب عالياً في عواصم الغرب الرأسمالي احتفاءً بالسقوط، وتبودلت التهاني. وخرج علينا البروفسور فرانسيس فوكوياما بكتابه المشهور «نهاية التاريخ» فقلب الدنيا رأساً على عقب. وفي الحقيقة، فإن التاريخ لم ينتهِ، ولن ينتهي. بل واصل مسيرته المعهودة. واستمر المؤرخون، كعادتهم، في توثيق أحداثه أولاً بأول. لكن الإمبراطورية السوفياتية، سقطت في هاوية النسيان، فعلياً وواقعياً، ولن تعود. وباختفائها توقفت الحرب الباردة، ورفعت في واشنطن وعواصم أوروبا الغربية أعلام النصر. وهبّت رياح التغيير – Wind of change، على بلدان أوروبا الشرقية. وصار حلف وارسو ذكرى بعيدة من ماضٍ ولّى وانقضى. وظهرت على خريطة العالم جمهوريات جديدة، بأعلام وبأناشيد وطنية، وبرلمانات، وحدود سيادية وجيوش. وبدا أن الدنيا دخلت مرحلة جديدة في مسيرتها الطويلة، ومن ثنائية المعسكرين إلى أحادية السيطرة الأميركية. وفي قصر الكرملين، ظل الرئيس الجديد، أو القيصر الجديد، يوري يلتسين يقضي أغلب أوقاته في تفتيت ما تبقى من الإمبراطورية، ويعرض أملاكها للبيع قطعة قطعة، في وقت كان الشعب الروسي يقف في طوابير طويلة، لم يعرفها حتى أيام المجاعة في الحرب العالمية الثانية، من أجل الحصول على ما يقتات به، من محال تجارية حكومية خالية الأرفف من السلع والمواد الغذائية.
نعم، كان الانهيارُ سلمياً. لكن انعكاساته على الواقع في روسيا والشعب الروسي كانت شديدة الوطأة ومحزنة. ولم يكن أمام مختلف فئات الشعب الفقيرة سوى الاستسلام للواقع المتغير بتناقضاته، والاكتفاء بالتفرج على ظهور طبقة جديدة، انبثقت فجأة، وبدأت في التنافس فيما بينها للاستحواذ وابتلاع المؤسسات والممتلكات العامة. ولم يكن ممكناً الالتفات إلى الخلف لأن مشاهد الانهيار كانت مفزعة، حيث الأحلام الثورية العظيمة وقد تحولت إلى أنقاض وحطام، واستحال عليهم في الوقت ذاته، رؤية القادم من الأحداث، لقتامة الضباب، وشدة الصراعات. نهاية مؤلمة وحزينة لا تليق بإمبراطورية جاءت فجأة مع العاصفة، وأربكت الحسابات وأخلت بالموازين في العالم، وذهبت سريعاً مع أول هبة من ريح التغيير. ولم تترك وراءها سوى الألم والحسرة في القلوب، والفقر والجوع في البطون.
اتفق المؤرخون والمحللون السياسيون في آرائهم وفي تحليلاتهم لما حدث. ووصلوا إلى خلاصة مفادها أن دخول الرئيس غورباتشوف إلى المسرح السياسي كان عنصراً رئيسياً وراء ما حدث سريعاً من انهيار. وأن سياسته التي عرفت باسم «بريسترويكا» (إعادة الهيكلة) و«غلاسنوست» (الانفتاح) فشلت في تحقيق المراد منها، ووصلت إلى طريق مسدودة، وفتحت الأبواب على مصاريعها أمام أعداء النظام الاشتراكي من القوميين – Nationalists الذين اقتحموا المشهد السياسي بقوة، وفرضوا حضورهم، نتيجة فشل غورباتشوف في السيطرة عليهم. وزاد الأمر سوءاً بظهور يوري يلتسين على خشبة المسرح، مليئاً بالطموح. وتمكن من أن يكون شوكة في خاصرة غورباتشوف. وحين أزف الوقت، تخلص منه، وأعلن نفسه قيصراً. لكن القيصر الجديد، بما احتواه من تناقضات وإدمان على تعاطي الخمر، سرعان ما فقد السيطرة على الأمور، وفي خضم الهرج والمرج، برز فلاديمير بوتين على المسرح، وتمكن من الإمساك بالخيوط بقوة. وبدأت روسيا مرحلة جديدة في تاريخها، تحت قيادة قيصر جديد، نشأ وتعلم في أروقة جهاز «كي جي بي» الاستخباراتي المخيف، وكبر في أجواء الحرب الباردة.