بقلم: فاروق يوسف – النهار العربي
الشرق اليوم- ما حدث في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 كان حدثاً أسطورياً في حياة العراقيين، لم يكن له شبيه في التاريخ المعاصر. لأول مرة يخرج الشعب بالملايين من أجل إسقاط النظام السياسي الذي احتكرت إدارته مجموعة من الأحزاب المرتبطة مباشرة أو غير مباشرة بإيران، في سياق وصفة أميركية ضمنت من خلالها تلك الأحزاب حصولها على حصصها في ما يمكن تسميته بـ”غنائم الحرب” التي أنعمت بها الولايات المتحدة على أطراف المعارضة السابقة التي ساندت الغزو الأميركي عام 2003، وكانت الواجهة المحلية لسلطة الاحتلال، ولم تخرج طوال السنوات التي أعقبت الاحتلال عن خريطة الطريق التي وضعها المحتل في مجالي منع قيام دولة وطنية بمؤسسات راسخة وفاعلة، وإهدار الثروات التي يجنيها العراق من بيع النفط بطريقة عشوائية، يغلب عليها طابع السرقة العلني، ومحاولة تطبيع الفساد ودسه في ثقافة المجتمع.
كانت انتفاضة تشرين صادمة في حجمها وتصاعد زخمها والحقائق التي نتجت منها، وفي مقدمتها اضطرار زعماء النظام إلى الاعتراف بفشلهم، لا في إدارة الدولة ولا في خدمة المجتمع، بل في مواجهة الاحتجاجات بما توفر لديهم من وسائل وأدوات قمع، نتج من استعمالها سقوط أكثر من سبعمئة قتيل وآلاف الجرحى. ولقد توّج ذلك الاعتراف بتعيين مصطفى الكاظمي الذي لم يكن محبوباً من أحزاب النظام، لا لأنه ليس من مناصريها فحسب، بل أيضاً لأنه محسوب على التيار القريب من وجهة النظر الأميركية، بسبب عمله السابق في “مؤسسة الذاكرة العراقية” التي أنشأها كنعان مكية المعروف بعلاقاته بالمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية.
ولأسباب انتهازية، وافقت الأحزاب على أن يكون الكاظمي حلاً لأزمتها، باعتبار أن عهده سيكون بمثابة هدنة تعرف أنها لن تكون طويلة الأمد. فوجود الكاظمي في رئاسة السلطة التنفيذية هو في حد ذاته أزمة. وهو ما كشف عنه صراعه مع الميليشيات التي لم تتوقف عن اغتيال الناشطين السياسيين وقصف محيط السفارة الأميركية.
كان يمكن أن يكون عهد الكاظمي بالنسبة الى الأحزاب فرصة، لا لالتقاط الأنفاس فحسب، بل أيضاً لإعادة النظر في المخططات الشمولية للنظام، بحيث يمكن أن يستعيد النظام حضوره بعد انتخابات عام 2021 بطريقة مختلفة، تتفاعل من خلالها البرامج السياسية والاقتصادية والخدمية للأحزاب مع المطالب التي تقدم بها التشرينيون والتي لم تكن بسقف عال، غير أن شيئاً من ذلك لم يحدث.
فالأحزاب كانت مطمئنة إلى أن الانتخابات في نسختها الخامسة لن تخرج عن الوصفة الأميركية. كان ذلك غباءً سياسياً لم يكن مفاجئاً بسبب خلو جعبة تلك الأحزاب من البرامج السياسية. كما أنها ليست قادرة على تفهم مطالب الشعب. لذلك كانت نتائج الانتخابات صادمة. لقد استعان الشعب بديموقراطية كانت الأحزاب قد اتخذتها عربة للوصول إلى السلطة.
ما لا يمكن توقعه أن تقبل الأحزاب بهزيمتها. لن تصدق أن الديموقراطية التي كانت سلّمها للوصول إلى السلطة قد هزمتها، أو أن الشعب استطاع بطريقة سلمية صامتة أن يحقق أهدافه في اختراق النظام السياسي، متسلحاً بضغط الاحتجاجات التي لا تزال قائمة تحت السطح. لذلك لا يمكن النظر إلى رفضها نتائج الانتخابات باعتباره مناورة لكسب مزيد من الوقت من أجل إعادة ترتيب الأمور داخل البيت الشيعي فحسب، بل هو أيضاً بداية لاستراتيجية جديدة قائمة على فكرة تثبيت حقها الدائم في الحكم من غير العودة إلى الشعب. وهو من وجهة نظر الأحزاب حق تاريخي تفرضه سنوات نضالها من أجل تحرير الشعب العراقي من أنظمة الاستبداد التي سبقت الاحتلال الأميركي، وهنا تقع المفارقة الكبرى، إذ اعتبر المعارضون السابقون الذين عادوا إلى العراق مع الدبابات الأميركية أنفسهم محررين ينبغي أن يحظوا بالتعويضات المعنوية والمادية إلى ما لا نهاية. ولا تنحصر تلك التعويضات بزمن معين أو بسلطة محدودة.
أما وقد هُزمت في الانتخابات، فإن الأحزاب حاولت بطرق مختلفة أن تُعيد العربة إلى مسارها التقليدي، فحاصرت بمناصريها المنطقة الخضراء، وهي منطقة الحكم، وفي الوقت نفسه تقدمت بوصفات جاهزة تقوم على مبدأ إحياء نظام المحاصصة والقفز على نتائج الانتخابات، ذلك لأنه غير وارد بالنسبة اليها أن تتخلى عن امتيازاتها وتذهب إلى المعارضة. فهي تدرك أنه في الاستجابة لذلك الخيار إنما يكمن انهيارها الذي سيجلب معه تداعيات سوداء، يقف فتح ملفات الفساد عبر العشرين سنة الماضية في مقدمتها، وهو ما يعني إحالة عشرات الآلاف من أفراد الطبقة السياسية وأتباعهم إلى القضاء. غير أن فشل محاولاتها الذي لم يتأكد بعد لن يثنيها عن إصرارها على إبقاء الإرادة الشعبية التي هزمتها في حيزها النظري، والحيلولة دون تحوّلها قوة عملية يكون في إمكانها فرض واقع سياسي جديد.
ولأن المسافة بين تلك الأحزاب والجماعات المسلحة تكاد لا تُرى، نظراً الى تشابك المصالح ووحدة المنطلقات العقائدية القائمة على الولاء لإيران، فإن إحياء “فرق الموت” قد يكون واحداً من أكثر الحلول التي ليس من المستبعد اللجوء إليها إذا ما تأكدت الأحزب أنها تواجه أفقاً مسدوداً، لن تتمكن بوجوده من وضع حد للمطالبة بالتغيير من خلال الإصلاح ومحاربة الفساد. كان التفجير الدموي الذي شهدته البصرة مجرد جرس إنذار، مهدت من خلاله الأحزاب لإمكان تحولها من الحوار السلمي إلى العنف. وهو ما ينبئ بأن طريق التغيير لن تكون سالكة بمجرد إقرار نتائج الانتخابات، وأن هناك أثماناً متأخرة ينبغي دفعها في مواجهة إرث سياسي ثقيل.