بقلم: علي الصراف – العرب اللندنية
الشرق اليوم- دعوة الرئيس العراقي برهم صالح إلى “عقد سياسي واجتماعي جديد”، بمناسبة المئوية الأولى لولادة العراق، لن تلقى تجاوبا من أحد.
المقال الذي نشره في صحيفة “الصباح” الرسمية كان يمكن، في ظروف أخرى، أن يكون مرسوما جمهوريا لإعادة بناء العراق. ولكن كاتبه، مثل الكثير من الكتّاب والمثقفين، بلا حول ولا قوة.
وهؤلاء إنما يكتبون في سراب، ويجتهدون بسراب، وتحلق بهم التطلعات إلى سراب. وهم لا يملكون، في بيئة الخطيئة العارمة، إلا القول الصواب. يقولونه فتجرفهم الريح إلى سراب.
نوح فعل ذلك من قبل، كما فعله إبراهيم الخليل، فأُلقي في النار.
هذا هو العراق. من هناك يبدأ تاريخه “الحديث”. لأنه ما يزال مقيما على ذلك التاريخ. وعشتار ما تزال تخون تموز. قدم لها الخصب، فاختارت النزول إلى سابع أبواب العالم السفلي.
الدمار الشامل الذي صنعته الأحزاب الثورية في العراق، بسطحيتها وضيق أفقها الأيديولوجي ومسالكها الهمجية، لم يُبق في العراق ما يمكن إنقاذه. حتى إذا ما طغت عليه الشُللية والميليشياوية وصعود “الشيعية السياسية” على جبل من جثث وجماجم الطوائف الأخرى، فإن البقية الباقية من العراق ربما تكون قد ضاعت إلى الأبد.
العراق بلدٌ مُحطم بأبنائه. لا الأحزاب التي تزعم أنها “وطنية” ولا جماعات “التبعية” المخلصين للولي الفقيه، ولا الناس العاديون يمكنهم أن يقدموا شيئا لمستقبل أبنائهم في هذا البلد.
تفشي الفساد ظاهرةٌ لا تتوقف فقط على وجود مسؤولين فاسدين. الشعب نفسه فاسد. والفساد هو نظام الحياة وعلاقاتها وروابطها. التجارةُ فساد. والمصالحُ فساد. والزواج فساد. والدين فساد. والعمائم فساد. وأينما ذهبت لن ترى إلا الفساد. حتى عندما ترى الناس تصلي، فاعلم أنها صلاة “تقية” وفساد. لا شك أن هناك أفرادا يحاولون التمرد، أو ينطلقون من اعتبارات وقيم تقليدية، إلا أنهم أفراد بلا حول ولا قوة.
ألْق نظرة على كل الأحزاب السياسية في العراق. كلها، من دون أن تستثني أحدا، وقل لي من هو الشريف الذي لم تتلوث يداه بموقف مشين، أو سياسة رعناء، أو ارتباط مخز، أو سلوك إجرامي، أو انتهازية رخيصة أو مساومة ذليلة، أو حتى نكران مباشر للانتماء إلى هذا “الوطن”.
العراقيون الذين صوتوا لميليشيات “الشيعية السياسية”، هم كلهم ممّن كان يحق أن يجرفهم الطوفان، ليس لأنهم يتحملون جزءا من مسؤولية الفشل الذي بلغه العراق، بل لأنهم هم الفشل نفسه. ولأن ضمائرهم ماتت.
كيف انتهت أحزاب هذه الطائفة لتسود العراق؟ كيف وجدت أتباعا ومريدين؟ ومن هم الذين ظلوا يطلقون النار ويحملون الهراوات والسكاكين على أبناء شعبهم من المحتجين على الظلم والجريمة والفساد؟
وهل هناك ما يخفى عن البصائر من أعمال الفساد والقتل لكي تظل أحزاب الولاء تحظى بالولاء؟ كيف؟ ما لم يكن هناك عراقيون هم في الواقع أكثر غرقا بالعار من قادة تلك الأحزاب والميليشيات.
اُنْظر إلى “السنية السياسية”، لترى العجب أيضا. فساد تابع لفساد. هذا هو المعيار الأول. وجريمة تتواطأ مع جريمة. والكل ينهب لحسابه الخاص و”يتحاصص” على موارد العراق لينهش لنفسه قطعة منها. وعندما لم يجد الضحايا السُنة ما يفعلونه انساقوا بجهلهم ووحشيتهم لكي ينتموا إلى تنظيم داعش.
قل إنه رد على وحشية مارسها شيعةُ السياسة. لا بأس، لك أن تقول. ولكنها ظلت وحشية تجسد مستوى الانحطاط الأخلاقي والسياسي والثقافي الذي بلغه العراق.
ولا حاجة للحديث عن الأحزاب الكردية. قادتها، بصريح العبارة والسلوك، لا يريدون للعراق إلا الخراب، ظنا منهم أنه إذا تفكك وانهار فإنهم سوف يحظون بالقدرة على الانفصال لإقامة دولة مستقلة. هذه هي كل “استراتيجيتهم” السياسية في التعامل مع “المركز”.
مستوى ثخين من الغباء، هو الذي أعمى بصائرهم عن الحقائق الجيوسياسية القائمة في المنطقة. فلم يروا أن دولتهم المستقلة حتى ولو قامت فإنها ستكون دولة منبوذة ومعزولة ومجبرة على تقديم التنازلات للجوار لكي يَسمح لها بأن تستورد منه ما تعيش عليه. ظنوا أن نفط كركوك يكفيهم، وأنهم عندما يبيعونه إلى تركيا بنصف السعر، فإنهم سوف يحظون بالاعتراف.
شيء ثخين بالفعل، لا يجرؤ حتى البغل على التفكير به. وهم على أي حال مستقلون إلى حد بعيد، فماذا فعلوا باستقلالهم غير أن حولوا كردستان إلى مستنقع فساد تابع للفساد. وبدلا من تصدير النفط صار الإقليم يُصدر الهاربين من نظام الفشل الذي يتزعمه إقطاعهم السياسي.
دعوة الرئيس صالح تصدر عن تصوّر نبيل وبحث مخلص عن سبيل للنجاة. ولكن ليس لدى الرئيس مَنْ يسمعه.
النظام القائم في العراق نظام فاسد حتى ولو كان طاهر المقاصد هو الذي يتولى منصب الرئيس فيه. لأنه أعزل، ولأنه وجد نفسه وقد ألقي به في اليمّ وقيل له “إياك إياك أن تبتل بالماء”. هذا هو حال الرئيس صالح. وإلى حد بعيد هذا هو حال رئيس وزرائه مصطفى الكاظمي أيضا. وهو مبلول بحاجته المريرة للتسويات.
لقد أمضى العراق أعوامه المئة وهو يسير في الاتجاه الخطأ بسبب أحزابه الثورية أولا، لأنها اختارت أن تفرض تصوراتها بالقهر والتخوين والتعسف، ولأن الدولة “الحديثة” فشلت في أن تبني مجتمعا على قيم أخلاقية وقانونية حديثة. هذه الأحزاب هي عشتار التي اختارت عالمها السفلي، لتبيع تموز إلى الشياطين، ولتهبط بالعراق إلى أسفل سافلين.
وحتى عندما جاء مَنْ يريد أن يبني العراق ولم يكن فاسدا فقد فعل ذلك بالخوف، ربما لقناعة منه بأن العراق لا يُساق إلا بالعصا. فدفع الثمن ضعفين، إذ انقلب عليه “أهل الولاء” فخانوه وخذلوه، وظل العراقيون يتفرجون على العاقبة. بعضهم يتشفى، وبعضهم يتأسف، وبعضهم وكأنه في عالم آخر. ولكنهم عاقبوه بقبول ما حل بهم من المخازي لأنه بنى لهم بلدا على هواه وليس على هواهم.
كل ما لدى العراق من أحزاب وجماعات وميليشيات ومنظمات وطائفية سياسية يتعين أن يُدفن أو يحرق، ولو رمزيا على الأقل.
في يوم كذاك، ربما سيكون بوسع الرئيس العراقي أن يدعو أبناء شعبه إلى أن يأخذوا حماما حارا، لكي يتطهروا مما في أنفسهم، وأن يكرروا الحمام خمس مرات في اليوم، بدلا من صلاة الزيف، لعلهم ينظفون من كل انتماء مشبوه، ديني أو مذهبي أو سياسي، إلى غير العراق.
لا توجد حلول الآن. حتى الصواب يتعين أن يتفاوض مع الخطيئة لكي يحظى بفرصة للحياة.
ولقد بلغ الخراب حدا لم يكن ليخطر على بال الشياطين أنفسهم. وهو ليس خرابا اقتصاديا فحسب، ولا سياسيا فحسب، ولكنه خراب اجتماعي وأخلاقي أيضا.
الفكرة من وجود طوائف هي نفسها تعني انتماء إلى شيء لا علاقة له بوطن كان يمكن أن يدعى “عراق”.
الكيان الذي نشأ في العام 1921 كان يمكن أن يتحول إلى كيان سياسي واجتماعي حقيقي، لولا أن مزيجا من الثورية والتخلف الاجتماعي ووحشية المسالك دفع بالبلاد إلى أن تُقذف في أتون ثورات وانقلابات لتسحقها وتذرها كما يُذر الرماد.
هذا هو العراق الآن. إنه كومة من رماد. لا طين فيه لتكتب على ألواحه الأساطير، ولا ماء.
أمنيات الرئيس صالح لن تتحقق. اُنْظر في ما يحيط به وستعرف أنه كتب مقالا جميلا فحسب.