بقلم: عبد الإله بلقزيز – سكاي نيوز
الشرق اليوم- هو أكثر من برنامج إصلاحات وأبعد، ذلك الذي أفصح الرئيس قيس سعيد عن مضمون عناوينه وعن جدوله في خطابه الحازم ليل الثالث عشر من ديسمبر من العام 2021.
حتى حسبانه خطوة تصحيحية لمسار سياسي في البلاد، بعد ثورة يناير، ليس يكفي ليترجم- على الحقيقة- ما تضمنه خطاب الرئيس من الأفكار والمبادئ التي بسط القول فيها في هذا الخطاب وفي سواه من خطابات ألقاها في بحر المائة وأربعين يوما المنصرمة.
إن رمنا الدقة، جاز لنا أن نقرأ الخطاب هذا بما هو تعبير مكثف عن رؤية جديدة إلى إعادة بناء النظام السياسي في تونس، على نحو مختلف عما انتهى نظر النخب التونسية إليه من هندسة سياسية متواضعة تحمل في جوفها أسباب التأزم السياسي الذي أخذ بتلابيب النظام منذ سنوات، وشل المؤسسات واستجر ما لا حصر له من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
وفي هذه الرؤية الجديدة التي يرهص بها الخطاب، لا يفوت المرء أن يلحظ أن رئيس الدولة يبني نظرته على ما اعتور الدستور من أعطاب وبالتالي على مسؤولية الهندسة الدستورية في إدخال البلاد والحياة السياسية فيها في نفق مسدود لا يتبين ضوء في حلكته.
فالدستور الذي يفترض فيه أن يوزع السلطات، على نحو متوازن، يستتب به الاستقرار وينتظم به عمل المؤسسات، وقع تفصيله على مقاس من وضعوه فانتهى، بالتبعة، إلى أن أصبح إطارا ناظما لتقاسم السلطة بينهم.
أفكار رئيسة ثلاث تلك التي تفرض نفسها على قارئه، اثنتان منها مفصوح عنهما وثالثة أخرى- وقد تكون الأهم- مضمرة، أولها تلك التي يعبر عنها تشديده على أس أساسيات الدولة: السيادة الشعبية، هذه التي لا قيام لدولة من دونها، فهي المدماك الذي عليه مبنى صرحها ومبدأ وجودها.
ولأن الشعب مصدر السلطة، في الدولة الحديثة، فلا مجال لافتراض إرادة أعلى في تلك الدولة من إرادته (الإرادة العامة)، كما ليس من سبيل إلى تصور إمكان مصادرة تلك الإرادة من قبل نخبة سياسية محترفة، والسطو عليها، باسم التفويض والتمثيل.
والحال إن ما حصل في تونس، وبالذات منذ انتخاب المجلس التأسيسي، هو أن النخبة السياسية رخصت لنفسها أن تصادر الإرادة العامة وتعتاض عنها بإرادتها، كما لو أنها تحصلت تفويضا مفتوحا في هندسة نظام للسلطة غير ذاك الذي يتنزل فيه الشعب في منزلة صاحب السلطة الحصري.
إن الإرادة العامة تعلو على إرادة الأفراد والجماعات، وهي ليست جمعا لها، بل نصاب مجرد وجوهري يعبر عن ماهية الدولة، أي عما يسميه هيغل بالكلي الذي يترجم جوهرية الدولة وتعاليها عن الأفراد والمجتمع المدني.
سيقال، ولكن الشعب هو من انتخب بإرادته مجلسا تأسيسيا لوضع دستور للبلاد، فكيف يجوز أن نطعن على عمله؟.
ثمة فكرة شائعة عن الشعب بما هو تلك الجماعة الوطنية التي لا تخطىء الاختيار. وربما ساهمت فلسفة العقد الاجتماعي في ترسيخ هذا الاعتقاد (وله على كل حال أصول في الفكر الديني المسيحي والإسلامي: الجماعة التي لا تجتمع على ضلالة والكنيسة المعصومة بعصمة حبرها الأعظم).
ولكن الاعتقاد هذا تبدد في الممارسة، ذلك أن في وسع الشعب تصحيح أخطائه السياسية. ماذا تكون الانتخابات غير تلك المناسبة لتصحيح خيارات خاطئة؟ ولكن، بينما يضمن النظام الانتخابي إمكانا للتصحيح ذاك، لا تتأتى الفرصة، دائما، مع الدستور، مع أن هذا أعلى مقاما بحسبانه النظام الأساس للدولة الذي يحدد سلطاتها.
بهذا المعنى تفهم دعوة الرئيس قيس سعيد إلى تصحيح الدستور بوصفها إيجادا مؤسسيا (أعني من مؤسسة رئاسة الدولة) لإمكانية لم تكن متاحة لمثل ذلك التصحيح. وهي، هنا، بمثابة ثورة ثانية؛ ولكن- هذه المرة- ليس من الشارع، بل من داخل الدولة.
وثانيها، حثه مؤسسة القضاء على النهوض بدورها في عملية إعادة بناء النظام السياسي، من طريق ممارسة وظيفتها الدستورية في تطبيق القانون وردع المخالفات، خاصة في شأن ذي خطر في حياة الشعب التونسي ومستقبله يتعلق بالفساد. إنها دعوة إلى الانتصاف للشعب بإعادة المنهوب منه من أموال عامة، اختلستها مافيات مالية- سياسية مطمئنة إلى أن احتسابا عليها ومساءلة لها من قبل القضاء ليسا واردين لقوة نفوذها في أجهزة الدولة.
وليس إلحاح الرئيس على دور القضاء تدخلا منه في شؤون هذه المؤسسة، ولا زراية منه باستقلاليتها، بل لحاجة نظام اشتغال الدولة إلى قضاء يتعهد القانون بالحماية والإنفاذ، ويحمي الإرادة العامة مما من شأنه انتهاكها أو النيل منها.
أما استقلالية القضاء فتستدعي، ابتداء، أن يعامل القضاء الجميع على قدم المساواة أمام القانون، فلا يكون لحساب زيد على حساب عمرو، ولا تكيل عدالته بمكيالين تضيع في كيلهما حقوق الفقراء ويتفلت المفسدون الفاسدون من العقاب. حينها، فقط، يكون قضاء لا قضاء وقدرا، ويستحق استقلالية مأمونة من شبهة التغطية على فساد يصير شريكا فيه.
وثالثها- ونستفيده من إمعان النظر في الأطروحة الضمنية المؤسسة للخطاب- فمكمنه في أن الرئيس سعيد يدعو شعب تونس وطبقته السياسية إلى نظام جديد يجمع بين أساسيات النظام الجمهوري، القائم على مبدأ السيادة الشعبية، والنظام الديمقراطي المباشر، في صيغته التداولية- التواصلية، التي نظر لها أبلغ التنظير الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، من غير تجاهل لمكتسبات نظام الديمقراطية التمثيلية والحاجة إليه (كما في إشارته إلى قانون انتخابي جديد وإلى انتخابات في ديسمبر 2022).
بمحاولته الجمع بين النموذج الجمهوري (كما يعبر عنه جان جاك روسو) والنموذج الديمقراطي التداولي، الذي يكسر قاعدة احتكار النخبة للسياسة ويوسع نطاقات المشاركة في الشؤون العامة، يكون قيس سعيد قد قذف بالتحدي الكبير أمام شعب تونس ونخبه، ورفع من سقف التفكير في المستقبل السياسي إلى أبعد حد يمكن تصوره. والخشية، كل الخشية، في أن لا تكون النخبة السياسية المحترفة في مستوى التداول في مثل هذه الخيارات، أو أن تدعوها مصالحها المتضررة من التغيير إلى معالنة هذه الرؤية عداء جهيرا، والتحريض ضدها بوسائل التجييش والتحشيد الشعبوية، أو بمضاربات إيديولوجية ومناقرات كلامية تخذيلية.
لا مرية في أن رئيس تونس أبدى، طوال الأشهر الأربعة المنصرمة، شجاعة أخلاقية عالية في مصارحة شعبه بهول ما تنتظره البلاد من وراء السير في المسار المجهول منذ العام 2014. ولا يعادل شجاعته المعنوية هذه في البأس سوى إصراره الحازم على المضي في تطبيق رؤيته رغم اعتراض المعترضين، متسلحا في مسعاه بإيمانه بما يفعل، وبثقته العالية في أن معتمده إنما على الشعب والمؤسسات السيادية للدولة في مساندة مشروعه.